كانت إحدى غايات محمد عبده الرئيسية أن يظهر إمكان التوفيق بين الإسلام وبين الفكر الحديث، وأن يبين كيفية تحقيق ذلك، وقد اشترك في مناقشتين حول هذا الموضوع، إحداها مع المورخ الفرنسي هانوتو، والأخرى مع اللبناني المستمصر فرح أنطون، كان الجدل من مقومات فكره، غير أن الجدل له أخطاره، ففي الدفاع عن النفس قد يصبح المجادل أقرب إلى خصمه مما كان يظن.
ومما يلفت النظر أن محمد عبده لم يهتم في كلتا المناقشتين بمسألة صحة الإسلام أو خطئه، بل حصر اهتمامه بأمر اتفاقه مع ما يفترض بأنه من متطلبات الفكر الحديث، ولعل نظرته إلى الإسلام قد تأثرت هي ذاتها، وفي أثناء النقاش بنظرته إلى ما يفتقر إليه الفكر الحديث، فقد تابع النهج الذي عهدناه لدى الطهطاوي وخير الدين والأفغاني في التوحيد بين بعض المفاهيم التقليدية للفكر الإسلامي وبين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة.
وعلى هذا النهج انقلبت المصلحة تدريجًا إلى المنفعة،والشورى إلى الديموقراطية، والإجماع إلى الرأي العام، وأصبح الإسلام نفسه مرادفًا للتمدن والنشاط اللذين كانا قاعدتي التفكير الاجتماعي في القرن التاسع عشر.
ولا شك انه كان من السهل باتباع هذا النهج تحوير - إن لم نقل إبطال - المعنى الدقيق للمفاهيم الإسلامية، وتناسي ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان، لا بل عن النظرة الإنسانية اللادينية.
وهذا ما تنبه له بقلق نقاده المحافظون، إذ كان لا بد أن يرافق عملية الانتقاء والتقريب هذه شيء من التقدير الكيفي، إذ عندما نتخلى عن التفسير التقليدي للإسلام ونفتح الباب للرأي الشخصي، يصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التمييز بين ما هو موافق للإسلام وما هو مخالف له. فهل فتح محمد عبده بدون قصد منه الباب لإغراق العقيدة والشريعة الإسلاميتين في لجة مبتكرات العالم الحديث؟
لقد نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسرًا تعبر العلمانية عليه لتحتل المواقع واحدًا بعد الآخر. وليس من المصادفة، كما سنرى، أن يستخدم معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة.
المصدر:
الفكر العربي في عصر النهضة. البرت حوراني (١٧٨ - ١٧٩).