ضوابط الخلاف الفقهي

ضوابط الخلاف الفقهي | مرابط

الكاتب: الشيخ الألباني

897 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟

الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية

جوابًا على هذه العبارة أقول: لا شك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، أي: من السُنن الكونية التي فرضها الله عز وجل على الناس فرضًا، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم، لكن ليس مستحيلًا أبدًا أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد والخصام والتعادي، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم كما سمعتم في الحديث السابق: (خير الناس قرني) فهم خير الناس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين.

فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.

فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضًا، مثلًا: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء.

وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء.

ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟ الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.

إذًا: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.

نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سببًا للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصًا، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.

هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.

الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية

ضابطة أخرى: الذين قد يختلفون من هم؟ هذه نقطة مهمة جدًا لنفهم الجواب عن هذا السؤال.

إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.

الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأيًا لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي.

وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا.

ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.

أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقًا لفظيًا، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية.

المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.

مدى صحة القول بأن هناك بدعة حسنة ومن قال به

إذا عرفنا هذه الحقيقة، ولا مجال لأحدٍ أبدًا إلى إنكارها، حينئذٍ أين هذا الخلاف الفقهي؟ من هم الأئمة المجتهدون الذين قالوا بأن هناك في الدين بدعة حسنة؟ أما أن هناك مِن المقلدين من استدل على ما ذهب إليه من استحسان البدعة في الدين واحتج برأي إمام، فأبدًا لا يوجد لديهم أثر واحد عن إمام من الأئمة المجتهدين، لا سيما حينما يحصرون الأئمة الأربعة فقط.

إذًا: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيرًا علميًا دقيقًا؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك.

ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافًا فقهيًا، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة.

والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالًا من البدعة الحسنة، لملئوا كتبًا ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جدًا، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلًا ذكرناه مرارًا، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون: بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذًا بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة.

فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مرارًا وتكرارًا، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين: إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازًا كما وقع من بعض السلف، فـ عمر بن الخطاب -مثلًا- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه] ، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله عليه الصلاة والسلام ولا من قوله.

إذًا: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائمًا بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبدًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الخلاف-الفقهي
اقرأ أيضا
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إلغاء دور الأب في الأسرة


الحركة النسوية لم تقف في حد مهاجمة النظام الأبوي الجاهلي بل تعدى ذلك إلى الهجوم على الأسرة ونظامها وأصل تكوينها والتشكيك في جدواها وتعدى ذلك إلى رفض أي سيطرة للأب داخل الأسرة على الزوجة أو الأبناء واعتبار ذلك من الأبوية وفي هذا الإطار رحبت بالأسرة المدارة من قبل الأم وحدها mother-only family واعتبرت تأنيث الأسرة أمرا إيجابيا في صالح المرأة وفي هذا السياق أيضا رحبت بالأسرة الشاذة السحاقية

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
1751
نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2


أثار عدنان إبراهيم في إحدى حلقاته الكثير من الشبهات حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة وزعم أنه قتل طفلين ثم جنت أمهما من هول المنظر ثم ادعى بأنه باع نساء المسلمين سبايا في أسواق النخاسة فكانت المسلمة العفيفة تكشف عن ساقها ليرى ليستطيع الناظرون تثمينها وكل ذلك لأنهن كن في معسكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فما حقيقة هذه الشبهات هذا ما يناقشه المقال

بقلم: أبو عمر الباحث
1683
خير أمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير أمة


خص الله الأمة الإسلامية بكثير من الخصائص والمميزات فهم خير أمة أخرجت للناس أتباع النبي الخاتم الذي لن يأتي بعده نبي آخر ولهذا عصمهم الله من الاجتماع على الضلال وجعلهم شهداء على الناس وخصهم بالرواية والإسناد وحفظ الذكر الذي نزله وغير ذلك وهذا مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث عن الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1829
قضية اللغة العربية الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات لسانيات

قضية اللغة العربية الجزء الثالث


قبل كل شيء ينبغي أن نعلم أن حياة هذا العالم العربي الإسلامي كانت تسير على نمط مألوف معروف لا يكاد يستنكره أحد: في العقيدة العامة التي تسود الناس وفي الدراسة في جميع معاهد العلم العريقة وفي التأليف والكتابة وفي حياة الناس التي تعيش بها عامتهم وخاصتهم من تجارة وصناعة كل ذلك كان نمطا مألوفا متوارثا فجاء هؤلاء الخمسة ليحدثوا يومئذ ما لم يكن مألوفا وشقوا طريقا غير طريق الإلف وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل ولكني سأشير إليه في خلال ذكرهم إشارة تعين على تصور موضع الخلاف

بقلم: محمود شاكر
2153
من معينات الخشوع | مرابط
تفريغات

من معينات الخشوع


يجب أن يهيئ الإنسان لنفسه موضعا للصلاة الآن بالنسبة لمن يصلي في البيوت النساء الشيوخ الأطفال العجزة على كل حال من يصلي في البيت هذا يجب أن يهيئ له موضعا يكون هادئا وقد كان الأسلاف يتخذون في دورهم مساجد يصلون فيها

بقلم: سعيد الكملي
337
الضابط في الأمور المحدثة | مرابط
مقالات

الضابط في الأمور المحدثة


إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
239