العجيبة الثامنة ج1

العجيبة الثامنة ج1 | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

803 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

عجائب العالم القديم

عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها. وهي عجائب حقًّا، ولكنها هياكل شيدت من حجارة قطعت من صخور الجبل أو آجر جبل من تراب الأرض ونضج على جمر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان. تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصناع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية... إنها كتبٌ لو جمعت لبني منها هرم صغير أو لشيد برج هائل.

 

تراث المسلمين

فهل يقاس أثر لا روح فيه- وإن لم يخل من عبقرية تروع ناظريها ويكبرها المتأمل فيها- بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتحرك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟

هل عرفتم (القاموس المحيط)؟ إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟ من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخًا؟ فكيف بمن ألفه تأليفًا؟! و(لسان العرب)، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟ و(تاج العروس شرح القاموس)؟ و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان على أمويته يتشيع؟ و(نهاية الأرب)، و(صبح الأعشى)، و(تفسير الطبري)، و(فتح الباري)، و(المبسوط)، و(شرح المواقف) للسيد الجرجاني، والزرقاني على (المواهب)، و(معجم البلدان)... وأمثال هذه الكتب التي تعد بالعشرات، بل بالمئات؟ إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلًا عن كتابتها كتابة.

فتصوروا كيف ألَّفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخًا؟ حتى كان في مكتبة العزيز بن المعز، وهو من ملوك الدولة العبيدية التي تُدعَى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب (العين). وهو أول المعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغًا إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعًا، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع علمًا جاء به كاملًا، هو علم العروض. استنبطه من أصوات القصارين وهم يخبطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميز منها (السبب) (طق) من (الوتد) (ططق)، وطبق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان.

وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها - كما يقول المقريزي في (خططه)- نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مائة نسخة من (الجمهرة) لابن دريد. وكل ذلك في عهد لم تكن عرفت فيه المطابع ولا الطابعات.

 

المكتبة الإسلامية

المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جلها ولم يبق منها إلا قُلُّها. وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل، وهو – على ذلك – شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول – كما نقلوا – أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما.

ولا نزال مع ذلك نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجودًا، آتيكم عليها بأمثلة. فهذا كتاب (الفصول والغايات) الذي قالوا إن المعري عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهم بريء، والكتاب مفقود، وفقده يؤكد التهمة ويقويها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لما كان محرر (القبلة) التي حلت محلها الجريدة الرسمية (أم القرى) رآه بيد أحد الباعة، فاشتراه بثمن بخس، وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا (التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب)، ثم طبعة الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: الزيات، وطه حسين، والزناتي.

وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه (الإبدال) -الذي كان يعتقد بأنه مفقود- ضمن مجموعة من المخطوطات. وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله ... فوجدت كتابًا عظيمًا هو ركيزة من ركائز علم اللغة، كان المعتقد أنه فقد فيما فقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو (معجم الأصلين)، أي الكتاب والسنة، للإمام الهروي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة (النهاية) وعدَّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع. وجدت منه نسخة صحيحة، مشكولًا أكثرها مكتوبة من ثمانمائة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد، وكان يومئذ مدير معهد المخطوطات، فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أمريكا، ونسخة أخرى ناقصة أيضًا في إسطنبول. وهذا الكتاب إذا طبع كان أصلًا من الأصول، وصحح عليه القاموس ولسان العرب. وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتمامًا ولا تلقيت منه جوابًا!

وبيعت مرة تركة عالم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرد أولاده- وهم جهلة- الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي. وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن رأوا بينها كتابًا فيه صور ملونة أعجبتهم، فسلُّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه, عرضوه على الوراقين، فإذا هو نسخة من (عجائب المخلوقات) للقزويني مكتوبة من أكثر من أربعمائة سنة، ميزتها أن فيها صورًا ملونة مذهبة كأنما صورت الآن، لها قيمة فنية لا تقدر، فباعوه بمئة ليرة (يوم كانت لليرة منزلتها)، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك.

 

المصائب والنكبات

هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لما انحدر علينا سيلهم المدمر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا – من جهلهم – كتبها في دجلة يمرون عليها يتخذونها جسرًا! حتى نقلوا أن ماء دجلة حيال الضفتين قد اسود مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونتاج العقول.

ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهارًا مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارس دواوين الشعر فيها – كما يقول ابن خلدون – أربعة وأربعين دفترًا كبيرًا. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس...
هذا عدا ما أصابها من النكبات الفردية، من التحريق والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبق من هذه المكتبة إلا الأقل الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي.

لقد اطلع عالم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب (كشف الظنون)، فوصف في كتابه العظيم ما اطلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وألفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافًا، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس.

وعالم تركي آخر هو طاش كبري زاده، صاحب (مفتاح السعادة)، وصف جانبًا آخر اطلع عليه فكان في ثلاثمائة وستة عشر علمًا (أو بحثًا إذا شئتم التدقيق والتحقيق).
وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن مكتبة الخليفة العبيدي- الذي يسميه الناس الفاطمي- لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون.

إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخًا؟ فكيف وكثير منها أملاه مؤلفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟ كـ(المخصص) لابن سيده، أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء. و(الاستيعاب) لابن عبد البر، أملاه إملاء وهو ضرير لا يقدر أن يأخذ من الكتب.

و(المبسوط) أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجب تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستملون ويكتبون، وهو يملي عليهم من بطن الجبِّ، ما عنده كتاب ينظر فيه، ولا مرجع يرجع إليه، وقد بين ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار.
 


 

المصدر:

فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون - دار المنارة، ط1، 2007هـ (ص 89)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#علي-الطنطاوي #تراث
اقرأ أيضا
لماذا ينكرون السنة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا ينكرون السنة؟


أولا اعلم أن القرآن لا يدل مطلقا أن الرسول صلى الله عليه ليس له سنة وليس له طاعة مستقلة عن نصوص القرآن بل الظاهر من القرآن أن الله أمر الناس بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه ولو كانت هذه الطاعة فيما تضمنته نصوص القرآن فقط لم يكن لهذا الأمر فائدة ولم يكن لذكر طاعة الرسول في الآيات الكثيرة أي فائدة !

بقلم: فهد الغفيلي
380
اهضم مبدعا | مرابط
فكر ثقافة

اهضم مبدعا


هناك فكرة جميلة يسمونها في الغرب اسرق مبدعا وليس معنى ذلك أن تسطو على أعماله وتنسبها لنفسك وإنما معناه أن تقصد إلى نتاج مبدع في مجاله وفنه وتعكف عليه عكوف المتبتل لا تدير وجهك عنه حتى تتشربه وتقف عليه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه حتى تهضمه ويسلس لك قياد أعماله.

بقلم: د. طلال من فواز الحسان
444
نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة ابن تيمية: لا تجعل قلبك كالإسفنجة


وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقرا للشبهات أو كما قال فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

بقلم: ابن القيم
491
قاسم أمين وتحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

قاسم أمين وتحرير المرأة


إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين قضية لها شأن وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت لما قرأت مذكرات قاسم أمين ومذكرات سعد زغلول لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه ذهب إلى فرنسا وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج يعني: مثلا: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها لماذا قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد ال

بقلم: أبو إسحق الحويني
705
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1376
ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟ | مرابط
فكر مقالات

ما هي مرتبة الحضارة في الوحي الإلهي؟


إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما هم في ذاتهم أي كما كانوا فعلا لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقا لميول المستهلك الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما عاش فعلا بين حرات طابة لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

بقلم: إبراهيم السكران
1014