إن الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول وأما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره..
فإن كان عاقلا لا يختار هذا إلا ليدفع به ما هو أكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وأيهما كان فإنه لا ينفذ طلاقه.
فان قيل: الفرق بينهما أن المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وأن يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه وأما الغضبان فإنه يملك نفسه، كما قال النبي: "ليس الشديد بالصرعة ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"
قيل: من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته كما قال القائل:
يا عاذلي والأمر في يده ... هلا عذلت وفي يدي الأمر
وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا أتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فإذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي أسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبه إذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه، فلئن يعذر سكران الغضب الذي لم يفرق مع شدة سكره على سكر الخمر أولى وأحرى
المصدر:
ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان، ص54