آثار العالمانية في الغرب: نهاية الإنسان

آثار العالمانية في الغرب: نهاية الإنسان | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

2588 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

مثّلت العالمانية علامة فارقة في تاريخ الغرب، إذ نقلته من عصر السلطان الكنسي إلى عصر سلطان العالم المادي، والفجوة بين العصرين هائلة حتى لا يكاد يربط الزمن الأول بالزمان الآخر كثير، لكنهما يشتركان في التيه بعيدًا عن حقيقة الإنسان، وجوهر حاجته إلى ما يروي غلته
 
والنظر عن كثب في حال الغرب المتعلمن في زمن ما بعد الحداثة، يكشف أن الآلة الدعائية الخارجية للغرب، وآلة التجميل لأقنانه في بلاد المسلمين، قد نقلا عن عمد صورة تكاد تكون عديمة الصلة بالعالمانية الغربية، وأدوائها القاتلة. فماذا جنت العالمانية على أهلها في المجالات الإنسانية الكبرى؟
 
 

المطلب الأول: نهاية الإنسان
 

مع انغماس الإنسان في الطبيعة لإخضاعها لرغباته، وانحسار أفقه ضمن نهايته القريبة، تقلّص همّه نهائيًّا إلى ما قبل حافة القبر، تلملمت ذاته، وانكمشت نوازع نفسه البعيدة، وصار التجريد والتهويم -وهما وقود انطلاقته الكبرى- مجرد خيال صرف لا يُرضي نهمته المادية الشرسة. وقد آل به ذلك إلى أن يتنكر إلى نفسه السابحة في مِسلاخه، وأن يكبت جوامحه ويأد أجنّة الأطياف المجنحة الأسيرة بين أضلعه، فقمع ما يميزه عن بقية ما يهيم على الأرض من دواب، وتخلص من صميم ذاتيته، ليتجرد من إنسانيته وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع بـ dehumanization، ليصبح الإنسان ترسا باردًا في آلة الكون الضخمة.
 
هذا الخروج من حال التأنّس، كسر في الإنسان تركيبته، وحوله في زمن سيطرة الدولة وقطاع اللذة المصنّعة إلى شيء بسيط في تكوينه، أملس بلا نتوءات، باهت بلا ألوان، مكرر بلا تميز، وهو ما اصطلح على التعبير عنه بالإنسان ذي البعد الواحد، حيث يفقد الإنسان أبعاده البكر ليتحول إلى لوحة بلا ملامح تضخ ألواحها مصانع قطاع اللذة ضمن النسق الاقتصادي العالماني المفرغ من القيمة.
 
إنه الإنسان المتّجه بجوامع نفسه إلى ما يُراد منه من إحساس وتفاعل ورغبة واستهلاك بنسق رتيب يفتقد الرغبة المتقلبة أو المترددة أو المتراجعة. وأخطر ما فيه أنه مستنسخ على هذا النمط السلس الهادئ دون أن يشعر أنه كيان مفرّغ من الثورة أو الفورة؛ إذ إن معامل تصنيع اللذة توحي إليه أنه فرد في اختياره لما يريد وأنه يعبّر عن تطلعاته الذاتية بأدوات اللذة التي أغرفته حتى شرقت بها نفسه وأخفت عنه نوازعه الأصلية.. إنه إنسان بارد يفتقد الحرارة الذاتية التي تسوقه إلى الخروج عن النسق الرسمي للتنميط.
 

الإنسان أحادي البعد

هذا الإنسان أحادي البعد يعكس مقاسات اللذة التي ترسم له وتصنّع لأجله، ليكون في المحصلة شيئًا مكررًا مثل أدوات اللذة التي تُصنَّع لأجله، مكررة، ذات شكل وروائح وألوان مكررة. كل ذلك وهذا الإنسان الغارق في فتنة التعليب، يشعر أنه مميز عن الجميع لأنه يسلك على خطى الموضة المتجددة والمتميزة، والتي صممت خصيصًا لأجله، هذا هو الإنسان عندما تخفت أصوات الضجيج في نفسه القلقة، وتهمد فيه تعبيراته القلقة في التجاوز إلى ما وراء الاستهلاك الآلي أو البهيمي. هذا الإنسان الفاقد لميزة التميز، يُصنَّع واقعه، وغده، ورغباته ومكارهه، حتى نشوزه ليس إلا وهما تصنعه مؤسسات اللذة.
 

خديعة الحرية

يعيش هذا الإنسان خديعة كبرى هي "الحرية" حيث يفعل ما يريد وينغمس في كل جديد، ويركب كل طارئ، لكنه في حقيقته يسير على سكة الجبرية، ويتحرك في طرق قسرية، لا يملك واقعا تجاوزها؛ ﻷنه إنسان مدجن، فاقد لحق الاختيار لفقدانه حاسة النقد ولتعلقه الحنيني بالوسائل بعد أن تلاشت من أفقه الغايات، فهو يلبس ما يحاك له، ويشرب ما يعصر له، ويأكل ما يطهى له، ويركب ما يصنع له؛ ﻷنه يجب أن يكون هكذا، دون أن يُسائل نفسه لماذا يجب أن يكون ما كان.

 

تسطيح العالم

هذا التسطيح في شخصية الإنسان المعلمن هو جزء من تسطيح العالم كله في زمن العلمنة المعولمة، وهو ما عبّر عنه توماس فريدمان في كتاب له منذ بضع سنوات بعنوان "العالم مسطح" والذي نافح فيه عن ضرورة تحفيز سرعة التواصل على حساب الذاتية الفردية أو الجماعية. إنه عالم منبسط بلا عوائق، كما أنه منبسط بلا معالم أو معان. ورغم سهولة التواصل اليوم في زمن الثورة الكنولوجية، فإن هناك القليل من الممكن أن يقوله الناس لبعضهم، فقد تسطّحت مشاعرهم وأفكارهم في تماثل مزعج.
 

زمن التنميط

في زمن التنميط، ينغلق الأسْر على الإنسان في ما سمّاه ماكس فيبر بالقفص الحديدي، حيث يهيمن مبدأ الإنتاج والوفرة على ذاتية الإنسان وفرديته. هذه الصورة الذهنية تعبير من فيبر عن أسر الإنسان ضمن النسق السريع للإنتاج حيث يكتشف أنه غير قادر على أن يغادره ويستحيل كسره، فقد خلع رداءه القديم ليلبس رداء يوافق نمط الإنتاج الجديد، لكنه اكتشف أنه أسير لهذا الرداء الصلب.
 

أنماط التسليع

إن خضوع الإنسان إلى أنماط التسليع وتطورها حوله أيضًا إلى مرحلة من مراحل التسليع، كعنصر من النمط الإنتاجي والتسويقي، أصبح شكله وما يكنه في صدره مما تصنّعه مؤسسات اللذة، وأضحى بذلك جزءا من إنتاج السوق، حتى راج في عالم الإنتاج والتجارة بيع رغبات المستهلك المخزّنة في بطاقات التسوق باعتبارها مادة موجهة للقائمين على الإنتاج، فغدا الإنسان المستهلِك والمستهلَك وواسطة الاستهلاك.
 

اللهاث وراء الإمتاع

إن حال اللهاث وراء الإمتاع الآني وحِدَّة السعار الاستهلاكي حوّلا العالم إلى سوق صاخب خاضع لمنطق الأسواق التجاربة حيث لا صوت فوق صوت الفائدة التجارية، والمجال حِكر على لغة التثمين والبيع. لقد غدا الإنسان الذي كان يصنع الأسواق في جانب من جوانب محيطه، شيئًا خاضعًا للتسويق، وجزءا من منظومة الربح والخسارة الماديتين.
 

الانغماس في الطبيعة

إن انغماس الإنسان في الطبيعة، قد حوّله إلى قطعة منها، فهو يخضع للقوانين المادية نفسها التي يحكم بها على الأشياء، هو قطعة من أشياء العالم، من جوهر مادي، وبوابته إلى العالم المادية صرفة، وقانون المادة هو الحاكم على الجميع،  هو غرسٌ في هذا العالم، ينتقل من عالم البذر إلى عالم الحطام ضمن نسق النشوء والفناء بسلاسة ودون ضجيج؛ ﻷن وجوده الوسيط مفرّغ من قيم البقاء والمكابدة الحية الناضحة بدفق البحث عن أجوبة كلية عن الأسئلة الكبرى.
 
لقد فقد الفكر في قالبه المجرد سلطانه القديم على التأثير على الإنسان نتيجة الصياغات المجردة المؤثرة بوعودها وحماسيتها، وأصبح عالم الوسائل والأدوات مهيمنا على وعي الإنسان ولاوعيه، وغدا العالم المادي مدخل كل فكرة جديدة تبحث لنفسها عن سلطان.

 


 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، ص120
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #نهاية-الإنسان
اقرأ أيضا
من فضائل أم سليم | مرابط
المرأة

من فضائل أم سليم


هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض ثم ذهب أبو طلحة للتجارة فمات الولد فقالت أم سليم: لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره.

بقلم: أبو إسحق الحويني
323
ليلة في بيت النبي الجزء الخامس | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الخامس


والذي يركب الخيل ويدمن ركوبها تنتقل صفات الخيل إليه ومن تلك الصفات: الكبر وقد ورد هذا في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: الكبر والبطر في أهل الخيل والسكينة والوقار في أهل الغنم فالغنم تنزل رأسها وتمشي في طريقها فكل واحد يأخذ من صفات ما يعايشه من الحيوان فهذا المنظر التعيس البريء الحزين -منظر الغنم- إذا ظل طوال عمره فيه فلابد أنه سيأخذ بعض هذه الصفات في الانكسار والثاني الراكب على خيل والخيل يقفز ويتراقص به وما إلى ذلك فينتقل إليه هذا الشعور

بقلم: أبو إسحق الحويني
804
دمعة على الإسلام | مرابط
فكر مقالات

دمعة على الإسلام


جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية وليعتق رقابهم من رق العبودية فلا يذل صغيرهم لكبيرهم ولا يهاب ضعيفهم قويهم ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم ويقولون للسلطان إذا جاوز حده غير سلطانه: قف مكانك ولا تغل في تقدير مقدار نفسك فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا ال...

بقلم: مصطفى لطفي المنفلوطي
613
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
789
عقول الصحابة والتابعين | مرابط
اقتباسات وقطوف

عقول الصحابة والتابعين


بين يدي القارئ اقتباس لامع لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من كتابه الماتع درء تعارض العقل والنقل يتحدث فيه عن عقول الصحابة الكرام رضي الله عنهم وعقول التابعين ومن تابعهم من العلماء الأجلاء وكيف أنها تفوق الناس جميعا ولا يسع أحد مخالفتهم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2241
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج2


وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: العابد الذي يعبد الله على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح من أجل هذا قدم الصالحون العلماء ورفعوا قدرهم بصرف النظر عن النسب وعن الشكل وعن السن وعن القبيلة لا توجد اعتبارات لهذه الأشياء مطلقا في عرف الفاهمين العلماء هم أعلى الأمة لا سلطان ولا صاحب مال ولا أي شيء آخر أعلى من العلماء

بقلم: د راغب السرجاني
681