وثمة أمر ينبغي أن يُدرك؛ وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم, فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيرًا من المعلومات للإنسان من عدم, وكثير من الناس يظن أنه إذا أَلَّف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم, وذلك من الخطأ المحض, فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلومًا أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها, وإنما ذلك مؤلف من مجموعة أجزاء منثورة كما يؤلف الإنسان مواد الطبيعة, فيؤلف بينها على أشكال جديدة ويسميها ابتكارًا واختراعًا, وهذا الابتكار والاختراع هو من مادة أصلها موجود, لا يمكن أن يوجد أصل المادة من عدم, كذلك من جهة المعاني والأفكار فإنها لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.
لكن يؤلف الإنسان بينها حتى يشكل كثيرًا من المعاني والمعلومات والمدركات التي لم يسبق إليها على هذا التركيب, وأما من جهة أجزائها فإنه قد سبقه إليها الكثير, ولهذا من المحال أن الإنسان يوجد معلومة من عدم محض, فإن هذا لا يكون من أحد إلا لله جل وعلا, فالمعاني تخلق كما تخلق الذوات من الماديات وغيرها, إذا أدرك الإنسان ذلك فإنه يعلم مهمة العقل من جهة استيعاب الحقائق وإدراكها, ويعلم أيضًا أن عقله ما هو إلا إناء, وهذا الإناء هو الذي يستوعب تلك المواد في أي مادة وضعت فيه، يحكمه ما وهبه الله جل وعلا فيه من تمييز, ويحكمه ما غرسه الله جل وعلا فيه من فطرة, لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
فالله جل وعلا جعل الفطرة هي التي توجه الإنسان وتأطره على الحق, ولكن إذا قلبت الفطرة احتاج الإنسان إلى أن يُرجع إلى أصلها حتى يتميز ذلك الملقى إليه حقًا أو كان باطلًا, ولهذا قال الله جل وعلا: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم:30], وهذه الفطرة تخضع إلى نوع من التدليس والتلبيس, ويكون هذا التدليس والتلبيس إما بذات المعلومة، أو بفعل الفاعل لها من جهة ذاته لو كان فردًا كأن يكون رمزًا، أو كذلك بكثرة الفاعلين لها ولو لم يكونوا رموزًا, فالنفوس ميالة إلى الكثرة من جهة العدد, وتحب أن تنغمس مع الكثرة، ولا تحب في ذلك القلة, وأعظم الخصومات التي واجهت أنبياء الله سبحانه وتعالى في أقوامهم هي مخالفتهم للكثرة, وذلك أن المخالفين لهم قالوا: إنهم يتهمون الأنبياء بالقلة والندرة, وأن من خالفهم هم الأكثر والسواد الأعظم, وهذا لا قيمة له من جهة الحقائق والتأصيل.
المصدر:
محاضرة اعرف الحق تعرف أهله