الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1556 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأزمة الثالثة: التضليل المعرفي:

من أساسيات الوعي الفكري التي يمثل المساس بها انخرامًا خطيرًا في البنية التحتية: احترام الفكرة نفسها وصدق التعامل معها، وتقدير عقل المتلقي لها، ومتى ما حدث تجاوز لهذه المبادئ فإن الفكر يتوجه مباشرة إلى التضليل والتزييف والتلاعب والانحطاط والتشويه.
 
والمتابع للمنتج الليبرالي والمطلع على العملية التفكيرية التي يمارسها في تعاطيه مع القضايا التي يسعى إلى تكريسها ونشرها في الوسط الثقافي السعودي يجد أن لديه انزلاقات خطيرة في تصوير الحالة الفكرية، وفي منهجية التعامل معها، وفي طريقة تركيب النتائج واستخلاصها.
 
وقد تسببت هذه الانزلاقات في تضليل الوعي المجتمعي، وإبعاده عن الحقيقة، وإقامة حواجز غليظة تحول دون الرؤية الناضجة للواقع.
 
فالمتابع الواعي يجد أن أكثر التيار الليبرالي لا يفرق بين الغلو والتطرف وبين مظاهر التدين الصحيحة، فيبدو للعيان أنه لا يفرق تفريقًا واضحًا بين من يتبنى فكر التطرف والغلو والتكفير وبين المتدين المتمسك بالشعائر الظاهرة, وأخذ يدخل في التطرف قضايا شرعية صحيحة لا علاقة لها بالتطرف، وأخذ ينقد المتطرفين والغلاة في مسائل شرعية ليست هي سبب حصول الغلو والتطرف لديه، وهذا كله تسبب في تضليل مفتعل لا حقيقة له.
 
ويجد أيضا أن التيار الليبرالي لا يفرق بين التقدم والتطور والارتقاء الحضاري وبين منتجه الفكري والصحفي، وبالتالي فكل من ينتقد منتجه أو يتحفظ عليه سواء في قضايا المرأة أو غيرها فإنه يُصَوَّر على أنه مخالف للتقدم والتطور، وأنه معاد للمعاصرة ويدعوا إلى التخلف والعيش في الظلام، وأنه محارب للعدالة والمساواة، ولديه أزمة في علقه وقلبه!، وكل هذا نوع من التضليل الفكري المفتعل.
 
وإذا حاول المتابع أن يقوم بعملية استقرائية للصحافة الليبرالية ليتعرف من خلالها على الهموم المسيطرة على منتجها سيجد أنها في أغلبها منصبة على موضوعات محدودة جدا كموضوع عمل المرأة، والإرهاب، وآراء بعض الدعاة، وهذا الطرق المكثف والتناول المركز يؤدي إلى التضليل الفكري بشكل ظاهر ؛ لأنه يوجه المشهد الثقافي إلى خانات محددة لا تمثل كل إشكالياته الحقيقية ولا كل أزماته الملحة.
 
وإذا استمر تجوال المتابع في ساحات المنتج الليبرالي سيجد نوعا آخر من التضليل المعرفي، سيجد أن الخطاب الليبرالي انتقى نوعا من العلماء وطلبة العلم ممن يتوافق مع بعض أطروحاته وجعلهم الممثلين للنضج الشرعي، وصور للقراء بأنهم هم الذين يمثلون الاعتدال والعلم الحقيقي، وأنهم المنقذ للأمة مما تعانيه من تخلف، وسعى إلى إبرازهم وإظهارهم، بل وصل الحال إلى عقد تراجم شخصية لبعضهم.
 
وإذا حاول المتابع أن يتعرف على أسباب ذلك لا يجدها ترجع إلى التمكن العلمي، ولا إلى النضج الاستدلالي، ولا إلى الخبرة في الاستنباط، ولا إلى الإتقان في الملكة العلمية، ولا إلى الثراء في النتاج العلمي، وإنما إلى أنه قال قولا يوافق الخطاب الليبرالي، أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!
 
وتتبدى عليمة التضليل المعرفي في مجال آخر، فإن الخطاب الليبرالي حين أراد أن يبحث عن المؤيدات الشرعية لمواقفه، قام بحملة تشريعية كبيرة، ولكنه وقع في أخطاء بحثية عديدة، نتيجةً لضعف المعرفة بالعلوم الشرعية، ونقص الأدوات البحثية لديه, من أفتكها: الانتقائية الاستدلالية، بحيث إنه لا يستقرئ النصوص الشرعية ليستخرج من مجملها حقيقة ما تدل عليه، وإنما انتقى منها ما يراه يدل على قوله.
 
ولأجل هذا لما اقتنع بعض الخطاب الليبرالي بأن النص الشرعي منفتح على كل الدلالات وأنه قابل لكل التأويلات، وأراد أن يشرعن لهذه النظرية ويبحث لها عن مستند في التراث، انتقى مقولة علي رضي الله عنه للخوارج، حين قال لهم:" إن القرآن لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال"، وتوصل من خلالها إلى أن عليًا يقول بنظرية انفتاح الدلالة، ونسي أن عليا رضي الله عنه أرسل ابن عباس ليناظر الخوارج فيما فهموه من القرآن وليبين لهم أخطاءهم، ونسي أن عليًا قاتل الخوارج لما كفروا المسلمين بناء على ما فهموه من القرآن، نسي كل ذلك وتوقف عن تلك المقولة فقط.
 
أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!.
 
ويجد المتابع تضليلا آخر لدى الخطاب الليبرالي، فإنه يجد في المنتج الليبرالي زيادة طافحة في جرعة التضخيم للأمور إلى درجة الخروج بها عن الواقع والتصادم مع المحسوس، فقد مارس عدد من التيار الليبرالي تضخيمًا موسعًا لبعض الأفكار التي دعى إليها بعض الدعاة والشرعيين – بغض النظر عن القول بصحته أو خطئه – حتى وصل إلى درجة التمويه على عقلية القارئ والاستخفاف به، وأقرب مثال على ذلك: التشويه المفتعل الذي مورس على الدعوة إلى هدم الحرم وبنائه على شكل يحقق فك الاختلاط بين الرجال والنساء، فقد أصر الخطاب الليبرالي على تصوير هذه الدعوة على أنها دعوة لهدم الكعبة نفسها !!
 
ومن مشاهد التضليل المعرفي التي يجد لها المراقب حضورًا مكثفًا في الخطاب الليبرالي: السعي إلى تحويل عدد من الشعائر والعبادات الدينية إلى عادات اجتماعية وتفريغها من البعد الديني وربطها بالأوضاع التاريخية والمحلية ؛ حتى يسهل تجاوزها والقدح فيها، كما هو الحال في تصوير الحجاب على أنه عادة من العادات الاجتماعية وليس من الشعائر الدينية.
 
وهذه العملية التضليلية مارسها الخطاب العلماني العربي في قضايا كثيرة كقضية الميراث، وقضية الحجاب، وقضية الحدود الشرعية، وقضية الطلاق، وقضية القوامة، وقضية تعدد الزوجات، وغيرها، وهاهو الخطاب الليبرالي السعودي يعيد تلك التجربة ولكن بجرعة مخففة.
 
وإذا تابع المراقب توصيف الخطاب الليبرالي للمشاريع النقدية التي ظهرت في الفكر العربي كمشروع محمد أركون، ومشروع حسن حنفي، ومشروح محمد الجابري، ومشروع نصر حامد أبو زيد، فإنه سيقف على تضليل معرفي من نوع آخر، فبعض الخطاب الليبرالي السعودي وصف أصحاب تلك المشاريع بالأوصاف الاطرائية العالية، وصفهم بأنهم أكبر المجددين في الإسلام وأنهم من حكماء المسلمين الكبار، وأن مشاريعهم تمثل فتحا جديدا للفكر الإسلامي، وهو بذلك كله يمارس تضليلا معرفيا على عقلية القارئ ؛ لأنه لم يراع مقدار الوعي الذي وصل إليه العقل العربي ولا مقدار الحاسة النقدية التي استطاع الارتقاء إليها، ولم يلتفت إلى كمية الجهود البحثية التي قام بها الخطاب العربي بجميع أطيافه – سواء العلمانية أو الإسلامية – في نقد تلك المشاريع.
 
فالمستقرئ للساحة الفكرية يجد أن تلك المشاريع النقدية قُدِّمت حولها بحوث علمية جادة أظهرت ما فيها من الخلل المنهجي الغائر في البنية المعرفية والبحثية لديها، وأبرزت ما احتوت عليه من الأخطاء التاريخية والتراثية، وأبانت ما فيها من المخالفة الصريحة لقطعيات الإسلام، وما تضمنته من الانزلاقات الاستدلالية والنتائجية، وكشفت مقدار التحريف الذي وقعت فيه سواء في التراث العربي أو الغربي، وبينت آثارها الفكرية المدمرة للفكر والمعرفة، ولكن الخطاب الليبرالي يتعالى على كل هذه الجهود وكأنه ليس لها وجود!
 
إن شيوع هذه الممارسات التضليلية في الساحة الفكرية له آثار سلبية مميتة، فهي من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى حدوث القلق والفوضى بأنواعها، فوضى في تصوير أقوال الآخرين، وفوضى في موزين النقد والتقييم، وفوضى في بناء المواقف وتركيب النتائج.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
التغريب: الأهداف والأساليب ج1 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج1


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2252
لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه على اجتراء المرأة في العصر الحديث ويقف على معنى الحرية التي تعنيها المرأة ونظرتها التي لا تخلو من الجور إلى الرجل ومآلات هذه النظرة إذا وصلت إلى كل بيت من بيوت المسلمين وإذا سمعتها كل واحدة من النساء ومالت إليها

بقلم: محمود شاكر
1867
النهي أشد من الأمر | مرابط
اقتباسات وقطوف

النهي أشد من الأمر


اختلف أهل العلم في مسألة الأمر والنهي أيهما أشد وأعسر على المسلم هل هو فعل الطاعات أم اجتناب النواهي يميل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى القول بأن النهي أشد من الأمر وهذا مقتطف يؤيد هذا الرأي من كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي رحمه الله

بقلم: ابن رجب الحنبلي
2148
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها | مرابط
اقتباسات وقطوف

عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها


مقتطف هام من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية يضع بين يدينا عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها العبد مهما بذل فيها من وقت وجهد وكدح ثم بعدما يذكرها يقف على أعظم الإضاعات التي قد يقع فيها العبد وهما إضاعة القلب وإضاعة الوقت

بقلم: ابن القيم
732
أحاديث وفضائل شهر رجب | مرابط
مقالات

أحاديث وفضائل شهر رجب


رجب: من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات ومن أسمائه رجب مضر ومنصل الأسنة والأصم والأصب ومنفس ومطهر ومعلي ومقيم وهرم ومقشقش ومبريء.. أما ما يروجه بعضهم من أن سمي بالأصب لأن الله يصب فيه الرزق فباطل.

بقلم: قاسم اكحيلات
846
انقسام الناس في باب القدر | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

انقسام الناس في باب القدر


تتجلى الوسطية بصورتها الصحيحة في موقف أهل السنة والجماعة بين كل الفرق المنحرفة والضالة وفي كل أبواب العقيدة والشريعة وهنا يدور الحديث حول باب القدر الذي انقسم فيه الناس إلى ثلاثة أقسام بين الغلو والتفريط والوسطية وهو موقف أهل السنة والجماعة وهذا مقتطف من شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين

بقلم: محمد بن صالح العثيمين
2198