طالع أحدهم في كتابٍ لأحد المستشرقين كلامًا عن وجود مذهب بصري مستقل عن أبي حنيفة، فناله العجب، وظنه من فتوحاته التي كانت تنتظر كشفه لها واستخراجه إياها من مخابئ المصادر!
وزيادةً على كون أبي حنيفة من فقهاء الكوفيين لا البصريين، فإن وجود اتجاهات فقهية مختلفةٍ في العراق مفارقةٍ لطريقة أبي حنيفة وأصحابه يُعَد من بدائه القول في تاريخ الفقه.
وليس ذلك في البصرة فقط، بل في الكوفة نفسها يوجد من الفقهاء من لم يكن على نهج أبي حنيفة وأصحابه .. وأبو يوسف -صاحبُ أبي حنيفة وظلُّه- كان من قبلُ على طريقة ابن أبي ليلى، ومكث عنده نحو تسع سنين، ثم صار إلى مجلس أبي حنيفة وانتحل طريقته، وكلاهما من فقهاء الكوفة، ثم صنف أبو يوسف في خلافهما كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" ويسمى أيضًا “اختلاف العراقيَّيْن”.. وهو مطبوع.
ويحكي الشافعي طرفًا من الحال الفقهية بالكوفة فيقول: (رأيتُ بالكوفة قومًا يميلون إلى قول ابن أبي ليلى يذمّون مذاهبَ أبي يوسف، وآخرين يميلون إلى قول أبي يوسف يذمون مذاهب ابن أبي ليلى). وهذا النص تجده في الأم (٩: ٢٧) وتجد نظائره متواترةً في المصادر المؤرخة للفقه، ولستَ بحاجة لتثبيت ذلك من أطروحة كتبت في كامبردج أو هارفرد أو غيرهما.
فلا أدري ما سرّ هذا الولع بما يكتبه الباحثون الغربيون فيما كان من جنس هذه المعلومات الأولية؟!
وقد رصد ابن تيمية حالة نفسية تعتري بعض من يقرأ لذوي الخطابات المجملة والمعاني المركبة المطوّلة بما يفضي به إلى الخنوع مقابلَ سلطةِ غموضها أنفةً من أن يُنسَب إلى الجهل ونقص العقل [الدرء ١: ٢٨٥] إلا أننا الآن بصدد حالة نفسية تنسحق بأوائل المعارف وبدائه المقررات لمجرد صدورها عن الأكاديميا الغربية!
ولستُ أريد بذلك نفي أن يكون في كتابات الباحثين الغربيين في تاريخ الفقه وغيره ما يكون إضافة حقيقية للبحث العلمي، لكن البليّة حين يتطامن بعض الباحثين ليكون اهتبالهم بمثل ما تقدّم.
كما أني لا أريد الحجرَ على أي باحثٍ في الإعجاب بمعلومةٍ رفع بها الجهل عن نفسه، فهذا شأنٌ، وأن يستطيل بها على عباد الله الباحثين شأنٌ آخر.
هراوة "الموضوعية" تكون في أشد حالاتها حين تُسلَّط على نتاج الباحثين العرب، أما حين تُستقبَل كعبة الأبحاث الأعجمية فثمةَ "رساليّةٌ" محببةٌ عند بعضهم تفضي إلى الانتصار والدعوة لكل ما دُوِّن بأحرفٍ غير عربية.
إننا بإزاء حالةٍ من التسويق الرديء بوكالات محلّيةٍ لنتاج الأكاديميا الغربية، لبواعثَ من أخصّها النكايةُ بالنتاج العربي والاستطالة على الباحثين العرب .. حالةٍ من الخنوع البحثي تبصر القذاة في عين الأبحاث العربية وتنسى الجذوع في أعين الأبحاث الأعجمية!