تراجع الخيرية

تراجع الخيرية | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

246 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

مَن تأمّل في "تراجع الخيرية" في قرون الإسلام الأولى= علِم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم، وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمّن سبقهم، وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بل إن مَن تأمّل لحظة ارتطام الفكر الاسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الاسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء= علم أن أئمة الاسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم الرسل أعظم في نفوسهم من كل ما سواها، فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين كل خير.

وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المُفضّلة، أما لو شئنا الانتقال إلى "النتائج الواقعية" وعقَدنا مقارنة بين "مخرجات المدرسة التربوية الاسلامية" وبين مخرجات الخطاب الديني المتبنّي لـ"تعظيم الدنيا"= فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.

فمخرجات المدرسة التربوية الاسلامية عميقة الإيمان بمرجعية الوحي، وشديدة الاعتزاز بسلفها، متشبعة بقيم العمل للإسلام والغيرة على الدين، وراسخة الإيمان بظلامية الثقافة الغربية، وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الإعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والإتصالية، وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد .. فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقُدها الى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية، بل قادها الى النجاح في تنظيم هرميّة اهتماماتها بشكل صحيح، فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد.  

وبالمقابل، قارن ذلك بمخرجات الخطاب الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا"، ستجد مَن يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزح عن علمانيته قيد أنملة، ومَن استمع له من الشباب وتشبّع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره؛ فنقصت هيبة السلف في نظره، وارتفعت قيمة الكفار، وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الإيمانية، ثم خسارة "المكتسبات السلوكية" الراقية التي تربى عليها، وغير ذلك من المظاهر المعروفة.

وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب "تعظيم المدنية الدنيوية" هو أنه يمارس دون وعي "إعادة تشكيل داخلي للمعايير" بما يتناقض مع المعايير الإلهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم.  

وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الإنحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا -وخصوصاً في مستوياته الشبابية-، فرأيت أنه إذا تشرّب قلب الشاب "تعظيم المدنية الدنيوية" و"الغلو في الحضارة المادية" بحيث أصبحت "معياره" في تقييم المجتمعات والشخصيات= قاده ذلك "تدريجياً" الى زهاء خمسة عشر كارثة:

التحييد العملي للنص، والإزراء بالقرون المفضلة، والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة، واللهج بتعظيم الكفار، والسرور بالحديث الفكري المجرد، والتدهور السلوكي، والعزوف الدعوي، والتحول للمشروعات الفكرية "الشخصية"، واستسذاج الموعظة والخطاب الايماني، والحدة في محاسبة الإسلاميين، والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة، وذبول الحمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمُحكمات، والتركيز على زلات المحتسبين بما يفوق عدوان المجاهرين، والتلذذ بمناهضة الفتاوى، والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء.

وباختصار شديد: إن خطاب الغلو المدني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف!!


المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص308

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مآلات-الخطاب-المدني
اقرأ أيضا
البركة في العلم | مرابط
مقالات

البركة في العلم


بعض العلماء لم يعرف إلا بمتن أو منظومة كابن آجروم والبيقوني أما الآجرومية فما من طالب يريد النحو إلا كانت بوابته وقل مثل ذلك في البيقونية في مصطلح الحديث. وإذا تأملت في حال بعض العلماء وجدت أن غيرهم أعلم منهم بكثير وأوسع دائرة وإحاطة لكن أثر هؤلاء العلماء أعمق من غيرهم ونفعهم أعظم ولازالت الأمة تتفيأ ظلال علومهم.. والسر في ذلك بركة العلم

بقلم: طلال الحسان
340
الدين والعبادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الدين والعبادة


مقتطف ماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية من رسالة العبودية يتحدث فيها عن المعنى الحقيقي للعبادة وكيف أنها تستلزم الحب والذل في آن واحد وكذلك يشملهما معنى الدين وما هو المعنى العام للدين ومراحل أو درجات الحب وجدير بالمسلمين أن يدركوا هذه المعاني جيدا حتى تصفى عبادتهم لله

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2124
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
525
التسوية بين المرأة والرجل | مرابط
المرأة

التسوية بين المرأة والرجل


إن تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحا لا يصلحه لها غيرها كالحمل والوضع والإرضاع وتربية الأولاد وخدمة البيت والقيام على شؤونه من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك.

بقلم: محمد الأمين الشنقيطي
322
قواعد اليقين | مرابط
مقالات المرأة

قواعد اليقين


إليك هذه قواعد.. هي أسس عند كل مسلم وهي عنده محل اليقين فاحفظها في نفسك وقولك وعملك ثم تأمل بعد ذلك ما شئت في مسألة التعرض للمرأة بما تكره:

بقلم: خالد بهاء الدين
197
مختصر قصة الأندلس الجزء الثاني | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الثاني


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1532