مَن تأمّل في "تراجع الخيرية" في قرون الإسلام الأولى= علِم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم، وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمّن سبقهم، وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.
بل إن مَن تأمّل لحظة ارتطام الفكر الاسلامي بسطوة الحداثة اليونانية في تاريخ الاسلام المبكر وكيف سببت ارتجاجات وفقدان تماسك لدى كثير من العباقرة والأذكياء= علم أن أئمة الاسلام الذين ثبتوا في تلك المحنة لم يتمكنوا من مقاومة تلك الأعاصير الحداثية إلا حين كانت العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم الرسل أعظم في نفوسهم من كل ما سواها، فجزاهم الله عن الاسلام والمسلمين كل خير.
وهذه البراهين السابقة إنما هي مستقاة من دروس القرآن والسنة وهدي القرون المُفضّلة، أما لو شئنا الانتقال إلى "النتائج الواقعية" وعقَدنا مقارنة بين "مخرجات المدرسة التربوية الاسلامية" وبين مخرجات الخطاب الديني المتبنّي لـ"تعظيم الدنيا"= فسنرى البون الشاسع في الفعالية والنجاعة.
فمخرجات المدرسة التربوية الاسلامية عميقة الإيمان بمرجعية الوحي، وشديدة الاعتزاز بسلفها، متشبعة بقيم العمل للإسلام والغيرة على الدين، وراسخة الإيمان بظلامية الثقافة الغربية، وجادَّة في امتلاك الوسائل الحديثة كالتخصصات العلمية والمؤسسات الإعلامية وتوظيف التقنيات البرمجية والإتصالية، وغير ذلك مما هو ظاهر لكل أحد .. فانظر كيف أن اتِّباع منهج الوحي وهدي القرون المفضلة في تعظيم الآخرة لم يقُدها الى الرهبانية كما يزعم غلاة المدنية، بل قادها الى النجاح في تنظيم هرميّة اهتماماتها بشكل صحيح، فكانت تلك المخرجات التربوية أنجح من غيرها في دينها ودنياها ولله الحمد.
وبالمقابل، قارن ذلك بمخرجات الخطاب الديني المتبني لـ"تعظيم الدنيا"، ستجد مَن يتصالح معه من العلمانيين لم يتزحزح عن علمانيته قيد أنملة، ومَن استمع له من الشباب وتشبّع بمفاهيمه تجد الكثير منهم اضطربت معاييره؛ فنقصت هيبة السلف في نظره، وارتفعت قيمة الكفار، وبدأ يشعر بسذاجة المشروعات الدعوية الإيمانية، ثم خسارة "المكتسبات السلوكية" الراقية التي تربى عليها، وغير ذلك من المظاهر المعروفة.
وأساس الخلل الذي لم يتنبه له خطاب "تعظيم المدنية الدنيوية" هو أنه يمارس دون وعي "إعادة تشكيل داخلي للمعايير" بما يتناقض مع المعايير الإلهية لقيمة المجتمعات والشخصيات والثقافات والأمم.
وأصدقك القول أيها القارئ الكريم أنني تأملت كثيراً في ظواهر الإنحراف الثقافي في صحافتنا ومنتدياتنا -وخصوصاً في مستوياته الشبابية-، فرأيت أنه إذا تشرّب قلب الشاب "تعظيم المدنية الدنيوية" و"الغلو في الحضارة المادية" بحيث أصبحت "معياره" في تقييم المجتمعات والشخصيات= قاده ذلك "تدريجياً" الى زهاء خمسة عشر كارثة:
التحييد العملي للنص، والإزراء بالقرون المفضلة، والاستخفاف بقيمة علوم الشريعة، واللهج بتعظيم الكفار، والسرور بالحديث الفكري المجرد، والتدهور السلوكي، والعزوف الدعوي، والتحول للمشروعات الفكرية "الشخصية"، واستسذاج الموعظة والخطاب الايماني، والحدة في محاسبة الإسلاميين، والرحابة وحسن الظن تجاه الدراسات المنحرفة، وذبول الحمية لله ورسوله تجاه الكتابات المنتهكة للمُحكمات، والتركيز على زلات المحتسبين بما يفوق عدوان المجاهرين، والتلذذ بمناهضة الفتاوى، والولع برخص العلماء وشذوذات الفقهاء.
وباختصار شديد: إن خطاب الغلو المدني يبدأ بالتجديد وينتهي بالتجديف!!
المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص308