المدن العالمية
عرّفت الباحثة (ساسكيا ساسن) المدن العالمية بأنها المدن التي تمثل مراكز هامة ومؤثرة في النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري العالمي. والمدينة تتأهل لهذه الصفة بسبب قدرتها على الفهم، ثم التعامل الذكي مع معطيات العولمة، وخاصة مفاهيم التدفق المعلوماتي والمعرفي والبشري والاقتصادي والمالي.
يتربع على قائمة المدن العالمية عدة مدن أمريكية أهمها نيويورك وشيكاجو، وبينما تمثل مدينتي لندن وباريس نماذج المدن العالمية في القارة الأوروبية، والواقع أن قراءة الأدبيات التي حلّلت ملامح المدن العالمية؛ تبلور بُعدين أساسيين لتفسير وجودها ونموها في العالم بداية من عمق أوروبا والولايات الأمريكية، إلى مدن الخليج.
البُعد الأول، وهو الشكل العمراني والتركيبة البصرية التي جعلت من الصورة العمرانية لمدن مثل نيويورك وشيكاجو وشنغهاي مرجعية بصرية وذهنية لمفهوم عالمية المدينة. وقد تحولت هذه الصورة تدريجيا إلى إطار مرجعي تهتدي به المدن حول العالم لإعطاء انطباعات جيدة عن قوة اقتصادها وقدراتها، وأصبحت مراكز العواصم في الكثير من بلاد العالم، أو على الأقل أجزاء منها، ما هي إلا مجموعة من محاولات مختلفة المقاييس لاتباع هذا النموذج الطاغي.
أما البُعد الثاني في تعريف وتفسير المدن العالمية، فهو الذي اهتمت به الباحثة ساسن، وهو أكثر عمقًا من تعريف ووصف المدن العالمية، حاججت ساسن بأن تعريف مدينة ما بأنها مدينة عالمية لا يرتبط بشكل المدينة فقط، بقدر ما يرتبط بقدراتها على خلق مركز جذب عالمي محفز ومستقطب للاستثمارات والبشر والمعلومات والأموال الأعمال.
قوى العولمة ومدن الخليج
ومن خلال طرح ساسن، يمكن تفسير نمو مدن الخليج العربي، وخاصة في الحقبة المعاصرة، من خلال قراءة جديدة تعتمد على قوى العولمة وتأثيراتها، وانجذاب المدن الخليجية لرغبة التواجد على المسرح العالمي بتحويل صورتها الذهنية والمادية من قرى للصيادين بسيطة في تشكيلها أو مدن متواضعة تقليدية، إلى تصور أقرب ما يمكن إلى المدن التي وُصفت في بايات القرن العشرين بالمدن العالمية.
فقد تبنت مدن الخليج العربي فكرة المدن العالمية، ووجدت فيها ما يؤهلها للمشاركة النسبية فيما يجري على مسرح الاقتصاد العالمي، ففي مدن الخليج تتبلور إشكالية العولمة بصورة أكثر وضوحًا، في ظل اهتمام تلك المدن بالتعرض للفكر ونمط الحياة ومنطق الاستثمار والاستهلاك الغربي، في ظل منافسة إقليمية شرسة.
والعولمة ليست ظاهرة حديثة، إلا أن الموجة الجديدة من العولمة فُسِّرت إقليميًا على أنها ليست تدخلا ماديا أو احتلالا، بل انسياب ناعم وخاصة في الجوانب اللاملموسة من الثقافة والمكان والإنسان، وتأثيراتها أصبحت غير قابلة للتغيير وتصعب مقاومتها.
تدفق النفط
مدن الخليج العربي إذن هي حالة خاصة في علاقتها بالموجة المعاصرة من العولمة، فمنذ اكتشاف النفط تدفق الملايين إلى إقليم الخليج العربي، وأنتجوا أماكن للاستهلاك ومشروعات متعددة وأماكن تسمح لأنماط الحياة العالمية بالنمو والازدهار، وفي العقد الأخير، أصبحت دول الخليج أكبر معمل للعمارة والعمران والتشييد في العالم. في عواصمها ومدنها تُشيّد أطول الأبراج وأضخم المطارات.
نموذج دبي
وقد كانت مدينة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة هي المدينة المبادرة إلى تبني نهج الأهمية القصوى للصورة العمرانية للمدينة في تسويق عالميتها أو بالأحرى تعلومها. بل إن هذا الاندفاع إلى عولمة المدينة الخليجية وخاصة من الناحية البصرية جعل البعض يعتقد أن دبي فقدت روح المدينة الخليجية العربية، وتحولت إلى معمل مفتوح لاختبار وتطبيق موضات وطرز معمارية غريبة لتدعيم هويتها الجديدة كمدينة عالمية، ومن ثم خُلقَت بيئة معمارية وعمرانية مليئة بالأوهام والفانتازيا المنفصلة جذريا عن البيئة المكانية والثقافية للإمارة.
الأكثر أهمية هنا أن التساؤل الجوهري الذي لم يُطرح بعد بشأن ما يمكن تعلمه من تجربة دبي في إنتاج المدينة السريعة اللحظية التي تُسقِط العنصر الرئيسي في تكوين المدينة وهو الزمن
".. لقد بدأت المدينة الخليجية تفقد حيويتها وملامحها وقسماتها إلى حد بعيد، فإذا نظرت إلى طراز البناء، أو نظرت إلى سحن الوجوه في الشوارع والدوائر، أو نظرت إلى طرز اللباس والمأكل والمشرب، فيصعب عليك تحديد الجغرافيا التي تعيش فيها" (السدحان 2010ن ص20)
ولكن من زاوية تحليلية أخرى قد يكون من الجائز فهم اندفاع إمارة دبي نحو تبني نموذج المدينة المتعولمة، ولو حتى على المستوى البصري أملا في أن تصل إلى المرحلة التالية، وهو تحول المدينة إلى نطاق مستقبل للأموال والاستثمارات والبشر، فالإمارة وهي أحد أهم مكونات دولة الإمارات العربية المتحدة بإماراتها السبع، أدركت مبكرا حقيقة خلو أراضيها من النفط وهو العمود الفقري للاقتصاد الخليجي عامة والإماراتي خاصة.
نموذج مكة
حينما نسلط الضوء على الحالة التنموية المعاصرة لمكة المكرمة نتوقف أمام هذا التساؤل الجوهري؛ بينما يوجد العديد من المبررات لتفسير توجه مدن الخليج إلى فكرة "المدن العالمية" وتطبيقها وخاصة في شقها البصري التشكيلي، فإن ما يثير الدهشة هو لماذا اختيرت مكة المكرمة أن تكون مدينة متعولمة المظهر أكثر من أن تكون مدينة مقدسة الشكل والمضمون؟!
إن المدينة العالمية أو المتعولمة تظهر بها الفواصل بين الطبقات جلية وواضحة، وهو ملمح منطقي في مدن تتدافع فيها رءوس الأموال وتتسابق على استغلالها الشركات العملاقة متعددة الجنسيات. ومكة المكرمة في ثوبها الجديد أصبحت مدينة مليئة بالفواصل والحواجز النفسية والمعنوية بسبب الفوارق المادية والمالية التي تحفزها وتشجع عليها المشروعات الضخمة العملاقة المحيطة بالحرم والتي تُقزّم الإنسان ماديا ومعنويا.
المثير للتأمل في هذا السياق أن مكة المكرمة لا تحتاج إلى مظهر مدينة نيويورك أو ناطحات سحاب مدينة شيكاغو لتأخذ موقعا على مسرح المدن العالمية، فمكة المكرمة بالفعل هي مدينة عالمية تبعا للتصنيف الأشمل للمدن العالمية والذي يتضمن التأثير الثقافي والحضاري والعقدي للمدينة. واستنادا على هذا التصنيف فإن مدينة بقيمة مكة المكرمة يجب ألا تتطلع إلى تقليد نماذج لمدن تعتمد على القيمة الاقتصادية الرأسمالية في صياغة دورها العالمي.
وعدم الانتباه إلى القيمة العقدية الحضارية الإنسانية هو ما دفع بعض الكتاب والنقاد إلى إلقاء الضوء على أزمة التنمية المعاصرة في مكة المكرمة. فعلى سبيل المثال وجه الكاتب السعودي (عبد السلام اليمني) نقدًا عميقًا إلى تناقض مفاهيم التنمية في المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحذر من عدم مراعاة للهوية والرصيد الثقافي والعمراني.
ونبه إلى الكيفية التي سيطرت بها الثقافة المستوردة على العُرف واللغة والأسماء والجغرافيا، ووصف ما يحدث في المدينتين المقدستين بحالة ارتباك وبحث عن البعد الحضاري، بينما وجه النعيم نقدًا عامًا للحركة المعمارية والعمرانية المعاصرة في المملكة العربية السعودية حذّر فيها من تحول المدينة إلى سلع وتعرضها المستمر لفقد الشخصية والهوية
"هناك إشكالية كبيرة تواجهها الشخصية المعمارية في المدينة السعودية، فحتى هذه اللحظة لا يمكن أن نقول إن هناك هوية معمارية سعودية، على رغم أننا نملك تراثا معماريا عميقًا.. مدن الإسمنت هي محصلة لرسملة المدينة وتحويلها إلى سلعة تُباع وتُشترى، المدن السعودية تفتقد للهوية المعمارية، مجهدة منهكة لا تعمل على راحة من يسكنها، تزيد من التشتت الذهني ولا تصنع السعادة، تزيد من الضغط النفسي ولا تحث على التواصل الاجتماعي" (د. مشاري عبد الله النعيم، أستاذ العمارة بجامعة الدمام-صحيفة الشرق الأوسط).
المطلوب الآن وبدون تأجيل البدء فعليا في استعادة هوية المدينة التي استحقت أن تكون "المكرمة المقدسة" من بين سائر مدن الكون. مرت مكة المكرمة في أعوام مضت بفترة شديدة السلبية طالت بالهدم والطمس كثيرًا من رموزها ودلالاتها، مكة المكرمة أصبحت تكتظ بكل ما يتناقض وبحدة وقسوة مع خصوصية العاصمة المقدسة، وهيبتها ووقارها وإطارها الروحاني وأجواءها النقية.
المصدر:
- د. علي عبد الرءوف، من مكة إلى لاس فيجاس، ص 78