والواقع أن المراقبين والنقاد طرحوا تفسيرات كثيرة لظاهرة الانقلاب المعياري هذه التي أشرنا إليها، ومحاولات متعددة لاستكشاف النواة الجوهرية التي انبثقت عنها تطبيقات ومواقف وإحداثيات هذا الخطاب المدني المتطرف، فبعض النقاد يرى أن السبب هو "الانبهار بالغرب"، والواقع ان الانبهار بالغرب أحد النتائج وليس العامل الحاسم كما سيأتي توضيح ذلك.
وبعض النقاد اعتقد أن الجذر الدفين في هذه الظاهرة هو "العقلانية"، والواقع أن هذه الظاهرة ليس لديها نظرية فعلية في "مصادر المعرفة" بحيث تقدم ما دل عليه العقل وترد ما عارضه، بل هي تارة مع العقل وتارة مع النص وتارة مع الذوق الشخصي وتارة مع المألوف وتارة ضد هذه كلها، فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة، وأعتقد أن تكوين "منظومة عقلانية متماسكة" أكبر بكثير من قدرات هذه الظاهرة وكتابها أساسًا.
وبعض النقاد اعتقد أن هذه الظاهرة هي امتداد تاريخي لمدرسة "المعتزلة"، والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيرًا، فمدرسة المعتزلة هي مدرسة دينية متزمتة أخرجت الفساق من الإسلام، وشرعت للمنابذة المسلحة لأئمة الجور، وناضلت الفلسفة الإغريقية بنفس أدواتها، ووصفهم كثيرًا من المحققين في علم الفرق بأنهم أصحاب إرادات أي أصحاب نسك وعبادة، وكان لديهم نتاج عقلاني منظم. وإنما سبب زيغهم غلوهم في التنقير بالعقول في الغيبيات وتقديمها على مضامين المرويات، حتى نتجت عن ذلك أصولهم الخمسة المعروفة، لا لأنهم أعرضوا عن الشرائع وانبهروا بأمة من أمم الكفر. فالمعتزلة مدرسة غلو لامدرسة تساهل، بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر الذي يحاول الوصول إلى تناقضات داخلية في التراث الإسلامي بهدف تحييد الوحي جملةً عن الحياة العامة.
المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص9