حقيقة التعبد في الإسلام

حقيقة التعبد في الإسلام | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

1952 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

محاسن الإسلام وحقيقة التعبد

إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى، ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك، أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين اعتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين، ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري.

إن النظر إلى التعبد في الإسلام على أنه ممارسات وطقوس دون خضوع القلب وتذلله وحبه للمعبود، أو على أنه خوف ورهبة وفزع ورعب دون حب ورجاء، أو على أنه حب وفناء وعشق دون هيبة وخضوع وخوف من المعبود؛ كل هذا لا يؤدي إلى الفهم الحقيقي لقضية التعبد في الإسلام.

إن للعبودية في الإسلام جمالا يوقف الإنسان على شاطئ الكون مندهشا بأنوار الحقائق الكبرى التي تنفتح له، وإن عدم تذوق جمالية التعبد والخضوع والمحبة لله سبحانه لمن أكبر أسباب التأثر بالشبهات المثارة ضد وجوده وكماله سبحانه، ومن ثم الوصول إلى الإلحاد والإنكار.

 

تجربة الشيخ فريد الأنصاري

وهاهنا تجربة فريدة في هذا المجال لعالم فريد كاسمه، وهو الشيخ: فريد الأنصاري -رحمه الله- في كتابه (جمالية الدين)، استعرض فيها مراحل فهمه للتدين والتعبد، وكيف أنها بدأت بالتصور المختصر، ثم انتقل إلى إدراك بعض المفاهيم الحركية الإسلامية والدفاع عنها، ومع ذلك يقول: إنه لم يصل إلى اللذة الحقيقية للإيمان، حتى أوقفه أحد مشايخه وأساتذته على حقيقة معنى الإله والتأله، يقول: “بدأت المراجعة في حياتي كلية، واكتشفت حقيقة أن هناك شيئا اسمه: (حلاوة الإيمان)، ذوقا لا تصورا، وحقيقة لا تخيلا!، ثم بدأت أعود إلى القرآن؛ فوجدت أني كنت بعيدا جدا عن بشاشته وجماله، وبدأت أعود إلى السنة؛ فوجدت أني كنت أجهل الناس بأخلاق محمد عليه الصلاة والسلام، وبدأت أراجع ما قرأته عن العقيدة، فوجدت صفحات مشرقة مما كتب السلف الصالح قد مررت عليها مرور الأعمى -لا مرور الكرام-، بسبب ما غطى بصري من فهوم سابقة، حتى كأني لم أقرأ قط!.
قلت: لم تكن مفاجأتي علمية بقدر ما كانت وجدانية، لقد كنت أقرأ عبارات المحبة والشوق والخوف والرجاء، ولكن دون أن أجد لها شيئا من نبض الحياة بقلبي”.(1).

لقد بين د. فريد -رحمه الله- في كلامه بأنه لا يتهم المفاهيم التي كان عليها سابقا؛ وإنما يقول: إن ظروف التلقي كانت سيئة للغاية، ولكيلا يكون الأمر غامضا؛ فسأنقل لكم كلامه في شرح مفهوم الإله والتأله والتعبد، يقول:
“كلمة (إله) في أصل استعمالها اللغوي كلمة قلبية وجدانية، أعني أنها لفظ من الألفاظ الدالة على أحوال القلب، كالحب والبغض والفرح والحزن والأسى والشوق والرغبة…إلخ.
 أصلها قول العرب: (أله الفصيل يأله ألها) إذا ناح شوقا إلى أمه. والفصيل: ابن الناقة إذا فطم وفصل عن الرضاعة، يحبس في الخيمة وتترك أمه في المرعى، حتى إذا طال به الحال ذكر أمه وأخذه الشوق والحنين إليها وهو آنئذ حديث عهد بالفطام، فناح وأرغى رغاء أشبه ما يكون بالبكاء، فيقولون: (أله الفصيل)، فأمه إذن ههنا هي (إلهه) بالمعنى اللغوي، أي: ما يشوقه. ومنه قول الشاعر: ألهت إليها والركائب وقف”(2).

ثم يقول: “وهكذا فأنت ترى أن مدار المادتين (أله) و(وله) هو على معان قلبية ترجع في مجملها إلى التعلق الوجداني والامتلاء بالحب، فيكون قول المؤمن: (لا إله إلا الله)؛ تعبيرا عما يجده في قلبه من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، ولا مرهوب إلا الله، ولا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله.

إنه أشبه ما يكون بذلك الفصيل الصغير، الذي ناح شوقا إلى أمه إذ أحس بألم الفراق ووحشة البعد، إن المسلم إذ يشهد ألا إله إلا الله؛ يقر شاهدا على قلبه أنه لا يتعلق إلا بالله، رغبة ورهبة وشوقا ومحبة، وتلك لعمري شهادة عظيمة وخطيرة، لأنها إقرار واعتراف بشعور لا يدري أحد مصداق ما فيه من الصدق إلا الله، ثم الشاهد نفسه. ومعاني القلب لا تحد بعبارات، ولا تحصرها إشارات، ومن هنا كانت شهادة: (ألا إله إلا الله) من اللطافة بمكان، بحيث لا تدرك على تمام حقيقتها إلا ذوقا!”(3).

 

كلام ابن القيم في المحبة

ثم ينقل عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- كلاما في المحبة عجيبا عظيما، يقول:
“فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله؛ فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام؛ فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة: (ألا إله إلا الله)، فإن الإله هو الذي يألهه العباد حبا وذلا، وخوفا ورجاء، وتعظيما وطاعة له، بمعنى (مألوه)، وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له…”(4). إلى أخر كلامه رحمه الله تعالى.

والمقصود من هذه القضية أن الإسلام لا يفهم إلا إذا فهمت حقيقة التعبد فيه، وفهم الموقف أو الشعور أو الاعتقاد الذي يصاحب الإنسان تجاه ربه إذا أدى العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول العز بن عبد السلام في قواعده: “المقصود من العبادات كلها إجلال الإله وتعظيمه ومهابته”(5).

فهذا تصور إذا أدركه الإنسان وعرفه بشكل جيد؛ فإن سيقف على صورة معرفية لمحاسن الإسلام فيها أسمى معاني الجمال القلبي، ومع ذلك فهي لا تغني عن التذوق العملي الحقيقي لهذا الجمال، فإن الخبر ليس كالمعاينة، وإن للإسلام طبيعة خاصة تختلف عن أي فكرة نظرية يعتقد بصحتها الناس، فإن من يؤدي عبادة الله على الوجه الذي أراد، ويحسن في ذلك، مع علم وفهم؛ فإن الله يهبه من جمال الحياة وحسن المعرفة ومن نور القلب ومن سعادة الروح ما لا يمكن أن يعبر عنه بكلام يكشف ما يجده، كما قال من قال من العباد: “إنا نجد من اللذة والسعادة ما لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف”.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. جمالية الدين، معارج القلب إلى حياة الروح، لفريد الأنصاري (40).
  2. المرجع السابق (34).
  3. المرجع السابق (35، 36).
  4. مدارج السالكين (3/26).
  5. قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (2/125).

 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، محاسن الإسلام: نظرات منهجية، ص21

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العبودية #التعبد #محاسن-الإسلام
اقرأ أيضا
شخصية السامري | مرابط
فكر مقالات

شخصية السامري


لكن لماذا كذب السامري؟ وماذا كان يتوقع لكذبته؟ الحقيقة هذان السؤالان من أكثر ما يثير الدهشة في قصة السامري وكل سامري. أما عن السؤال الثاني وتوقعه لمستقبل كذبته فلربما ظن أن موسى لن يرجع من ميقات ربه ولن يكشف سذاجة كذبته بمنتهى السهولة بمجرد عودته ولربما كان يتوقع أن ينتصر له قومه الماديون حتى إن عاد نبيهم.. المشكلة فعلا في السؤال الأول: لماذا؟!

بقلم: محمد علي يوسف
483
الإسلام أسلوب حياة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإسلام أسلوب حياة


مقتطف ماتع للكاتب محمد أسد من كتاب الطريق إلى مكة يحدثنا عن بداية تعرفه على الإسلام وكيف أنه رأى هذا الدين أسلوبا شاملا للحياة يحكي لنا بعض اللمحات الجميلة حول اختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والمذاهب والعقائد

بقلم: محمد أسد
740
حكاية السينما والمتشددين | مرابط
فكر مقالات

حكاية السينما والمتشددين


قصة السينما في هذه الأيام تبدو كنموذج مجهري لانكشاف حقيقة هذا العبث المستتر بالضوابط الشرعية وتعرية متقنة للممارسة السلبية الخفية التي تنافق هذا المجتمع المبارك فلا تقدر على تمرير المحرمات إلا عبر بوابة التأكيد على الالتزام بقيود الشريعة السمحة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2128
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1419
اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي | مرابط
اقتباسات وقطوف

اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الآخروي


وأما اقتضاء العدل الإلهي للجزاء الأخروي فظاهر وجعل الله التسوية بين المحسن والمسيء حكما سيئا منافيا للحق الذي خلقت به السماوات والأرض والواقع أن هذا التفريق الذي يقتضيه عدل الله تعالى وحكمته غير متحقق تماما في الدنيا

بقلم: د سعود عبد العزيز العريفي
741
هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه


قالوا: اختلف الصحابة في قرآنية أهم سور القرآن وهي سورة الفاتحة فلم يكتبها ابن مسعود من مصحفه كما نقل عنه ذلك التابعي ابن سيرين بقوله: إن أبي بن كعب وعثمان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ولم يكتب ابن مسعود شيئا منهن وبين يديكم الرد على هذه الشبهة

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
2447