حقيقة التعبد في الإسلام

حقيقة التعبد في الإسلام | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

1735 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

محاسن الإسلام وحقيقة التعبد

إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى، ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك، أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين اعتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين، ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري.

إن النظر إلى التعبد في الإسلام على أنه ممارسات وطقوس دون خضوع القلب وتذلله وحبه للمعبود، أو على أنه خوف ورهبة وفزع ورعب دون حب ورجاء، أو على أنه حب وفناء وعشق دون هيبة وخضوع وخوف من المعبود؛ كل هذا لا يؤدي إلى الفهم الحقيقي لقضية التعبد في الإسلام.

إن للعبودية في الإسلام جمالا يوقف الإنسان على شاطئ الكون مندهشا بأنوار الحقائق الكبرى التي تنفتح له، وإن عدم تذوق جمالية التعبد والخضوع والمحبة لله سبحانه لمن أكبر أسباب التأثر بالشبهات المثارة ضد وجوده وكماله سبحانه، ومن ثم الوصول إلى الإلحاد والإنكار.

 

تجربة الشيخ فريد الأنصاري

وهاهنا تجربة فريدة في هذا المجال لعالم فريد كاسمه، وهو الشيخ: فريد الأنصاري -رحمه الله- في كتابه (جمالية الدين)، استعرض فيها مراحل فهمه للتدين والتعبد، وكيف أنها بدأت بالتصور المختصر، ثم انتقل إلى إدراك بعض المفاهيم الحركية الإسلامية والدفاع عنها، ومع ذلك يقول: إنه لم يصل إلى اللذة الحقيقية للإيمان، حتى أوقفه أحد مشايخه وأساتذته على حقيقة معنى الإله والتأله، يقول: “بدأت المراجعة في حياتي كلية، واكتشفت حقيقة أن هناك شيئا اسمه: (حلاوة الإيمان)، ذوقا لا تصورا، وحقيقة لا تخيلا!، ثم بدأت أعود إلى القرآن؛ فوجدت أني كنت بعيدا جدا عن بشاشته وجماله، وبدأت أعود إلى السنة؛ فوجدت أني كنت أجهل الناس بأخلاق محمد عليه الصلاة والسلام، وبدأت أراجع ما قرأته عن العقيدة، فوجدت صفحات مشرقة مما كتب السلف الصالح قد مررت عليها مرور الأعمى -لا مرور الكرام-، بسبب ما غطى بصري من فهوم سابقة، حتى كأني لم أقرأ قط!.
قلت: لم تكن مفاجأتي علمية بقدر ما كانت وجدانية، لقد كنت أقرأ عبارات المحبة والشوق والخوف والرجاء، ولكن دون أن أجد لها شيئا من نبض الحياة بقلبي”.(1).

لقد بين د. فريد -رحمه الله- في كلامه بأنه لا يتهم المفاهيم التي كان عليها سابقا؛ وإنما يقول: إن ظروف التلقي كانت سيئة للغاية، ولكيلا يكون الأمر غامضا؛ فسأنقل لكم كلامه في شرح مفهوم الإله والتأله والتعبد، يقول:
“كلمة (إله) في أصل استعمالها اللغوي كلمة قلبية وجدانية، أعني أنها لفظ من الألفاظ الدالة على أحوال القلب، كالحب والبغض والفرح والحزن والأسى والشوق والرغبة…إلخ.
 أصلها قول العرب: (أله الفصيل يأله ألها) إذا ناح شوقا إلى أمه. والفصيل: ابن الناقة إذا فطم وفصل عن الرضاعة، يحبس في الخيمة وتترك أمه في المرعى، حتى إذا طال به الحال ذكر أمه وأخذه الشوق والحنين إليها وهو آنئذ حديث عهد بالفطام، فناح وأرغى رغاء أشبه ما يكون بالبكاء، فيقولون: (أله الفصيل)، فأمه إذن ههنا هي (إلهه) بالمعنى اللغوي، أي: ما يشوقه. ومنه قول الشاعر: ألهت إليها والركائب وقف”(2).

ثم يقول: “وهكذا فأنت ترى أن مدار المادتين (أله) و(وله) هو على معان قلبية ترجع في مجملها إلى التعلق الوجداني والامتلاء بالحب، فيكون قول المؤمن: (لا إله إلا الله)؛ تعبيرا عما يجده في قلبه من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، ولا مرهوب إلا الله، ولا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله.

إنه أشبه ما يكون بذلك الفصيل الصغير، الذي ناح شوقا إلى أمه إذ أحس بألم الفراق ووحشة البعد، إن المسلم إذ يشهد ألا إله إلا الله؛ يقر شاهدا على قلبه أنه لا يتعلق إلا بالله، رغبة ورهبة وشوقا ومحبة، وتلك لعمري شهادة عظيمة وخطيرة، لأنها إقرار واعتراف بشعور لا يدري أحد مصداق ما فيه من الصدق إلا الله، ثم الشاهد نفسه. ومعاني القلب لا تحد بعبارات، ولا تحصرها إشارات، ومن هنا كانت شهادة: (ألا إله إلا الله) من اللطافة بمكان، بحيث لا تدرك على تمام حقيقتها إلا ذوقا!”(3).

 

كلام ابن القيم في المحبة

ثم ينقل عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- كلاما في المحبة عجيبا عظيما، يقول:
“فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله؛ فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام؛ فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة: (ألا إله إلا الله)، فإن الإله هو الذي يألهه العباد حبا وذلا، وخوفا ورجاء، وتعظيما وطاعة له، بمعنى (مألوه)، وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له…”(4). إلى أخر كلامه رحمه الله تعالى.

والمقصود من هذه القضية أن الإسلام لا يفهم إلا إذا فهمت حقيقة التعبد فيه، وفهم الموقف أو الشعور أو الاعتقاد الذي يصاحب الإنسان تجاه ربه إذا أدى العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول العز بن عبد السلام في قواعده: “المقصود من العبادات كلها إجلال الإله وتعظيمه ومهابته”(5).

فهذا تصور إذا أدركه الإنسان وعرفه بشكل جيد؛ فإن سيقف على صورة معرفية لمحاسن الإسلام فيها أسمى معاني الجمال القلبي، ومع ذلك فهي لا تغني عن التذوق العملي الحقيقي لهذا الجمال، فإن الخبر ليس كالمعاينة، وإن للإسلام طبيعة خاصة تختلف عن أي فكرة نظرية يعتقد بصحتها الناس، فإن من يؤدي عبادة الله على الوجه الذي أراد، ويحسن في ذلك، مع علم وفهم؛ فإن الله يهبه من جمال الحياة وحسن المعرفة ومن نور القلب ومن سعادة الروح ما لا يمكن أن يعبر عنه بكلام يكشف ما يجده، كما قال من قال من العباد: “إنا نجد من اللذة والسعادة ما لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف”.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. جمالية الدين، معارج القلب إلى حياة الروح، لفريد الأنصاري (40).
  2. المرجع السابق (34).
  3. المرجع السابق (35، 36).
  4. مدارج السالكين (3/26).
  5. قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (2/125).

 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، محاسن الإسلام: نظرات منهجية، ص21

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العبودية #التعبد #محاسن-الإسلام
اقرأ أيضا
من واجبات المرأة المسلمة في وقتنا المعاصر | مرابط
المرأة

من واجبات المرأة المسلمة في وقتنا المعاصر


لا يتساهل في لبس الطفلة بدعوى أنها ما زالت صغيرة وأن من حقها أن تفرح بطفولتها حتى لا تكره الحجاب عندما تكبر ... إلخ. هذه شبهات شيطانية يأخذ الحق الذي في هذا الكلام ويطبقه بالباطل. نعم لا بد أن تعيش الطفلة حياتها ولكن ب الحق الذي يوصلها إلى مراد الحق سبحانه وتعالى. فتتعلم أن تتزين بالحق في بيتها بما يليق لها في وسط عائلتها والفرق بين التزين بصورة بين النساء والتزين بين المحارم الرجال والتزين للزوج فلكل حقه وما يليق به وما يمنع

بقلم: محمد حشمت
376
كيف تقضي على حياة أولادك المستقبلية؟ | مرابط
المرأة

كيف تقضي على حياة أولادك المستقبلية؟


هذه الفتاة التي قضت قرابة عشرين عاما بعيدا عن أعمال البيت وتدبيره ومسئوليته بمجرد أن ترتبط وتتزوج هل ستتحول مرة واحدة إلى حب الاستقرار والقرار في البيت وخدمة الزوج والأولاد وتأسيس بيت صالح ورعاية زوجها وأولادها والاهتمام بنظافتها الشخصية في طورها وكل هذه الأمور؟

بقلم: محمد حشمت
251
ليلة في بيت النبي الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الرابع


والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لعائشة: بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته قالت: بالسواك فأول ما يدخل البيت يستاك وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة

بقلم: أبو إسحق الحويني
637
يا حبذا نوم الأكياس | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا حبذا نوم الأكياس


فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته ولا ببدنه والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقال لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال النبي التقوى ههنا وأشار إلى صدره

بقلم: ابن القيم
432
حجة البعوض غير المرئي | مرابط
اقتباسات وقطوف

حجة البعوض غير المرئي


من ضمن من تحدثوا في إشكالية وجود الشر الباحث ألفن بلانتنجا وهو يتحدث عما يسمى بحجة البعوضة غير المرئية ويربطها بشكل مباشر بقصور الإدراك والعقل الإنساني مقارنة بحكمة وأسباب الله وبين يديكم مقتطف يشرح فيه فكرته بشكل كامل

بقلم: ألفن بلانتنجا
384
كيف تعرف صدق النبوة ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

كيف تعرف صدق النبوة ج2


كثيرا ما يردد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم وهذا يقتضي عظم التنافر والفرق بينهما حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق والآخر في أسفل دركات الكذب ومن التبس عليه حالهما حري به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما

بقلم: صفحة براهين النبوة
997