ومقدارُ غرضنا من ذلك: أنه قد يظن ظان أن حكم الأنام إذا عمهم الحرامُ حكمُ المضطر في تعاطي الميتة، وليس الأمر كذلك؛ فإن الناس لو ارتقبوا فيما يطعمون أن ينتهوا إلى حالة الضرورة، وفي الانتهاء إليها سقوطُ القوى وانتكاثُ المِرر، وانتقاضُ البنية، سيمّا إذا تكرر اعتيادُ المصير إلى هذه الغاية، ففي ذلك انقطاعُ المحترفين عن حرفهم وصناعاتهم، وفيه الإِفضاءُ إلى ارتفاع الزرع والحراثة، وطرائقِ الاكتساب، وإصلاح المعايش التي بها قوامُ الخلق قاطبةً، وقصاراه هلاكُ الناس أجمعين، ومنهم ذو النجدة والبأْس، وحفظةِ الثغور من جنود المسلمين، وإذا وهَوْا ووهنوا، وضعفوا واستكانوا، استجرأ الكفار، وتخللوا ديار الإسلام، وانقطع السلك، وتبترَّ النظام.
ونحن على اضطرار من عقولنا نعلم أن الشرع لم يرد بما يؤدي إلى بوار أهل الدنيا، ثم يتبعها اندراس الدين، وإن شرطنا في حق آحاد من الناس في وقائع نادرة أن ينتهوا إلى الضرورة، فليس في اشتراط ذلك ما يجر فسادا في الأمور الكلية، ثم إن ضعف الآحاد بطوارئ نادرة، إن جرّت أمراضًا وأعراضًا، فالدنيا قائمة على استقلالها بقوامها ورجالها، ونحن مع بقاء المواد منها نرجو للمنكوبين أن يسلموا ويستلبوا عما بُلوا به.
المصدر:
- أبو المعالي الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم