سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

600 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

العلوم الحياتية وعلاقتها بالعلوم الشرعية

الدليل السادس: أن العلوم الحياتية وسائل من وسائل فقه القرآن الكريم والسنة المطهرة، يعني: لكي أعرف أفسر القرآن الكريم تفسيرًا صحيحًا أحتاج إلى معرفة العلوم الحياتية.

يعني: أن علماءنا القدماء من السلف عندما قرءوا آيات في القرآن الكريم فهموها فهمًا معينًا وفسروها على وجه معين، ولما تقدم العلم بالمسلمين فهمنا منها أشياء أخرى وظهرت وجوه جديدة، فمثلًا: قوله سبحانه وتعالى: "وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا" [النبأ:7] فبعد ظهور العلم الحديث وكلكم تسمعون للدكتور زغلول النجار بارك الله فيه، والدكتور أحمد شوقي إبراهيم وغيرهما ممن يتكلم في هذا المجال، فهؤلاء اكتشفوا أن الجبل الذي فوق الأرض إنما هو جزء يسير من حقيقة الجبل، وأن معظم الجبل داخل الأرض كالوتد، فإذا أضفت إلى ذلك أن مهمة هذه الجبال هي تثبيت الأرض كمهمة الوتد عندما يثبت الخيمة، فهذا متفق مع كلمة الوتد، وهذا يعني الكثير والكثير عندما يكتب في تفسير القرآن، أليس هذا مختلفًا عن مجرد القول بأن الجبال أوتاد يعني: قوية وراسخة وكبيرة؟ فلو فسرنا الآية بهذا التفسير العلمي فكم من الناس في الأرض إذا قرءوا هذا التفسير العلمي قد يسلمون؟!

قال تعالى: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" [القمر:1]، أحد الإنجليز كان يشاهد برنامج في التلفاز عن أبحاث الفضاء، وكانت المذيعة تقول لعالم من علماء الفضاء: أنتم أنفقتم أموالًا ضخمة على الفضاء وكذا والناس تموت من الجوع ومحتاجة لهذه الأموال، فقال: نحن اكتشفنا تقنيات حديثة، ووسائل في العلاج، ووسائل في كذا..، واكتشفنا اكتشافات لم نكن نستطيع أبدًا أن نكتشفها لو لم ننفق ما أنفقنا في رحلات الفضاء هذه، قالت له: مثل ماذا؟ قال لها: كانشقاق القمر، ثبت بما لا يدع مجالًا للشك -ونحن لا نفهم كيف- أن القمر قد انشق قبل زمن والتحم من جديد سبحان الله! هذا الإنجليزي كان يشاهد التلفاز وكان قد أهديت له نسخة من القرآن الكريم مترجمة، وقبل مشاهدة البرنامج كانت أول سورة فتحها: "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" [القمر:1]، فقال: كيف انشق القمر؟! هذا كلام غير مقبول، فلما شاهد البرنامج أسلم من ساعته، وهو الآن من الدعاة إلى الله عز وجل، فهذه إضافة.

فهل ستظل أمة الإسلام منتظرة لأمريكا أو إنجلترا أو أسبانيا أو ألمانيا حتى تكتشف اكتشافًا علميًا فتذهب لتسقطه على القرآن الكريم؟ هذا لا ينفع، على علماء المسلمين أن يكتشفوا العلم، ونحن نجد في كتاب ربنا سبحانه وتعالى هذه الأشياء، فيكون هذا حجة دامغة على العباد، وكتاب الله عز وجل لا تنقضي عجائبه، وسيظل هكذا إلى يوم القيامة، في كل سنة وفي كل قرن يخرج لنا منه شيء، لا تظنوا أن هذه هي آخر القصة، لا، سيأتي مستقبلًا ونرى أشياء أخرى وثالثة وعاشرة، وبعد عشرات السنين من الآن إن كان في عمر الأرض بقية سترون الكثير والكثير، وسيرى أحفادنا الكثير والكثير؛ لأن هذا الكتاب كتاب معجز.

إذًا: العلوم الحياتية لو أخذتها بهذه النية ألا يكون هذا علمًا شرعيًا يساعدك على تفسير القرآن الكريم، ويساعدك على هداية الناس لرب العالمين، ويفتح قلوب العباد، فمنهم من يفتح القلوب بكلمات رقيقة، ومنهم من يفتحها بالأخلاق الحسنة، ومنهم من يفتحها مثل هذه العلوم، وهذا طريق من أهم الطرق.

 

التأخر العلمي

الدليل السابع: هل من مصلحة الدعوة أن يكون حاملوها من المتخلفين علميًا؟ عندما يأتي شخص من أي دولة غربية وهو نصراني أو يهودي أو ملحد عندما يسمع أنه يوجد بلاد اسمها إسلامية، فخرج ينظر ما هي البلاد الإسلامية فلو قرأ الإحصائيات التي ذكرناها فهل ممكن يفكر في الإسلام؟ صعب، لكن لو قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة فإنه سيجد حججًا قوية، لكن أنت عرضته على فتنة إقفال الباب من الأساس؛ بسبب إهمالك العلوم الحياتية.

يقول الله عز وجل: "رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [يونس:85]، أليس كذلك؟ ما عليه المسلمون من التردي والضعف والتخلف يجعل الذي يراهم من غيرهم يقول: مستحيل أن يكون هؤلاء على الحق، فيفتن من رآهم ولا يبحث من الأساس، قل هذا في مجال العلم، وقل هذا في مجال الأخلاق وغيره.

تحدثت معكم قبل شهور في هذا المسجد عن الرجل الذي أسلم، ثم زار بلاد المسلمين وقال: الحمد لله أنني أسلمت قبل أن أرى بلاد المسلمين، يعني: لو رأيتهم قبل أن أسلم فقد أسلم، فهو رأى هذا الوضع من التخلف في العلوم، ورأى الفساد في الأخلاقيات والرشوة والفساد والتسول في الطريق وأمورًا كثيرة جدًا، فكان من الممكن أنه ما يفكر أصلًا في الإسلام، لكن الحمد لله الإسلام دين قاهر قوي معجز، ليس فيه خلل لا من قريب ولا من بعيد: "تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت:42].

إذًا: هل من مصلحة الدعوة أننا نكون متخلفين علميًا؟!

عندما أتفوق علميًا أوسع مجال دعوتي فعلًا، وأدعو إلى الله عز وجل بالقدوة الحسنة، ولما أقرأ لهم آيات العلم يجدونها متمثلة في، ولما أقرأ آيات الأخلاق فهي متمثلة في، آيات بر الوالدين متمثلة في، وهكذا الدعوة بالحركة، فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، لو تكلمت بعشرين كلمة في مدرج على أهمية العلم في الإسلام وأنت ساقط في مادتين فكلماتك عن العلم ليس لها معنى، والحمد لله نحن بدأنا العام الدراسي الجديد، فينبغي أن نقبل إقبالًا على العلم، لا تأتي عليك آخر السنة الدراسية وعليك مادة مثلًا أو بصعوبة تأتي بمقبول، أو يكون ترتيبك (150) على الكلية أو (200) أو (1000) أو لا يوجد ترتيب أصلًا كما يقول أخونا، هذا لا يستقيم.

لكن لما تكون الأول على الدفعة وتتكلم كلمة إسلامية، فالناس ستسمع عندما ترى درجتك (100%)؛ لأن الأول يكون له بريق، وكذلك الثاني والثالث، من أعطى وبذل فلا بد أن يأخذ، فربنا سبحانه وتعالى عادل، فيا حبذا لو كان هذا الجهد في سبيل الله، فصاحبه سيأخذ دنيا وآخرة، ألا تشتاقون لهذا الوضع لنا ولأولادنا ولإخواننا ولأمتنا؟!

 

الإتقان

الدليل الثامن: ربنا سبحانه وتعالى أمر بالإتقان في كل شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فكما أنك مأمور أن تتقن الذبح فمن المؤكد أنك مأمور أن تتقن العلم الذي أنت متخصص فيه، لا شك في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يحترم الذين يتصفون بالعلم احترامًا قد لا نفهمه إلا بعد فهم قيمة العلم في الإسلام.

فالرسول الله صلى الله عليه وسلم ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو حديث الإسلام على سرية فيها وجوه المهاجرين والأنصار، قد نستغرب ونقول: عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه أسلم من خمسة شهور يتولى على سرية فيها مائتان من وجوه المهاجرين والأنصار، بل أتبع هذه السرية بمدد فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين فكانوا تحت إمرته، فاستغربت الناس هذه التولية وسألت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (إني لأولي الرجل وفي الجيش من هو خير منه؛ لأنه أبصر بالحرب).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (من تطبب وهو لا يعلم عن الطب فآذى نفسًا أو ما دونها فهو ضامن)، يعني: لو أن شخصًا اشتغل بمهنة الطب وهو ليس بطبيب أو لم يكن ماهرًا في هذا المجال الذي عمل به، كما -وللأسف الشديد- تجدون دكاترة في تخصص مختلف جدًا يعالجون أمراضًا أخرى في تخصص آخر، فعندهم عيب في حقه لما يقول: لا أعلم، بل يعالج، فلو عالج غير متخصص مريضًا فآذاه في نفسه أو ما دون ذلك فهو ضامن، يعني: يدفع له دية الشيء الذي أخطأه، سواء كانت في النفس أو في العضو الذي أصيب بالعلاج الخطأ هذا.

أما الطبيب الماهر فليس ضامنًا، يعني: الطبيب الماهر إن حصل منه خطأ ولم يكن هذا الخطأ عن إهمال ليس ضامنًا؛ لأنا لسنا مطالبين بأننا نعالج المرضى (100%)؛ لأن هناك أمراضًا لا يعلم شفاءها إلا الله عز وجل، وهناك أخطاء مقبولة في حق الأطباء علميًا وموجودة في الكتب، لكن الأخطاء من غير الماهر أو من غير الطبيب المتخصص غير مقبولة بالمرة، قيل هذا الكلام من أكثر من (1400) سنة.

انظروا إلى الدقة! وانظروا إلى حياته صلى الله عليه وسلم كيف كانت ثرية بأسس العلم في كل الفروع!!

عندما أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه من الذي عالجه؟ عالجته رفيدة رضي الله عنها وأرضاها وهذه امرأة، هذا الكلام لأخواتنا، هذه امرأة تعالج رجلًا وفي هذه البيئة، يعني: الآن قد نفهم الكلام قليلًا، لكن في الماضي صعب، فقد كانت هي الماهرة في هذا العلم، فقدم لها الرجل المريض لتعالجه رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها كانت متمكنة من العلاج للجرحى.

كذلك قضية تأبير النخل فهي قضية في منتهى الأهمية، فالصحابة استشاروا الرسول عليه الصلاة والسلام في تأبير النخل فأشار برأي ليس من آرائه الشرعية، بل رأي غلب على ظنه أنه يصلح، فقال رأيه في هذه القضية، فامتثل الصحابة لكلامه وهو مخالف لعلومهم، لكن هم توقعوا أن رأي الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من رأيهم، فلم تنتج النخيل مثل ما كانت تنتج، وجاء التمر رديئًا، فذهبوا إليه فقال لهم كلمة رائعة صلى الله عليه وسلم -وكل كلامه رائع صلى الله عليه وسلم- قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، يعني: أنا أقول وأبلغ عن ربي العلوم الشرعية، أما العلوم الحياتية فأنتم أعلم بها، لا بد أن تبدعوا فيها، استشرتموني ولست متخصصًا فيها وقلت رأيي، وأنتم أعلم بها مني، مع أنه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا الكلام يحتاج إلى فقه، وهذا الفقه تحتاج إليه الأمة؛ حتى تتحرك بهذه الحماسة في هذه العلوم الحياتية إلى جوار العلوم الشرعية.

 

تحرير العقول

الدليل التاسع: أن الإسلام دين يحرر العقل، ويهتم جدًا بالحجة والبرهان والدليل، فهو يأمر المسلمين بالتدبر والتفكر في كل شيء، حتى إنه يناقش أمورًا في غاية الحرج، يناقش أمور العقيدة، والعقيدة: أن تؤمن بالله عز وجل عن طريق الحجة والبرهان والدليل، لا يقول لك: هو كذا وانتهى، لا، "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" [يس:78-79]، هذا دليل عقلي على أن القادر على الإنشاء من لا شيء -من العدم- أقدر على الإعادة من شيء، هذا بالحجة العقلية: "وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا" [يس:79-80] قد يقول قائل: كيف يجعل من الشجر الأخضر الذي بداخله ماء نارًا؟ نقول له: أليس الميت يخرج منه الحي؟!

وقال في الأخير: "أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" [يس:81] فهذه حجج عقلية تأتي واحدة بعد الأخرى في قضية واحدة، وهناك آيات أخرى كثيرة في نفس السياق يقيم سبحانه وتعالى الحجة على الخلق أنه هو الخالق، وأنه هو الذي يجب أن يعبد، مع ما جاء عن طريق حبيبه صلى الله عليه وسلم.

فالإسلام دين يحرر العقل بالفكر والتدبر، وانظر إلى الكون من حولك، وأخرج الثورات التي في باطنه، وأبدع في هذا الخلق، فهذا أمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو أمر بالسير في ملكوته عز وجل، والأمر بالسير في الأرض والتفكر والتدبر كثير جدًا في كتاب ربنا.

 

التفوق في العلوم الحياتية والشرعية

الدليل العاشر: آخر شيء نذكره في هذا المضمار: أنك إذا راجعت التاريخ الإسلامي ستجد دائمًا أن عهود القوة مربوطة بالتفوق في العلوم الشرعية والحياتية، لا يوجد عندنا كما كان عند أوروبا من اضطهاد للعلماء، لماذا أوروبا الآن تنادي بالعلمانية؟ وعلمانية يعني: لا دينية، الإنسان العلماني يقول: لا دين، قضية الدين هذه قضية غير مقبولة، لماذا أوروبا كلها تنادي بالعلمانية؟ لأن الكنيسة الأوروبية الكاثوليكية كانت شديدة وقاسية على العلماء، فقد أوقفت حركة العلم في أوساط القرن السادس عشر عند أول ظهور الحركة العلمية والثورة العلمية، فبدأت الكنيسة تضاد وتحارب هذه الحركة العلمية بمنتهى القوة.

وأنتم تعرفون محاكمات كوبرنيكوس ومحاكمات غاليليو، كوبرنيوكوس هذا هو الذي اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، وأن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض كما كان معتقدًا قبل ذلك، وهذا الكلام كان مخالفًا للأفكار التي عند الكنيسة، فقالوا له: كيف تقول: إن الأرض تدور؟ يعني: أنا أستيقظ في الصبح وأجد محلي قد انتقل من مكان إلى آخر، هذا ليس من المعقول، أليس كل شيء ثابت حولنا؟ خالف فكرهم فاضطهدوه إلى درجة أنهم هددوه بالقتل فهرب من البلد، وحرقوا كل كتبه ومنعوا تدريسها في كل البلاد، ولم يكتشف أن علمه هذا صحيح إلا بعد عشرات بل مئات السنين من وفاته.

و غاليليو حكم عليه بأنه يحبس في بيته إلى أن يموت، وغيرهم وغيرهم ما بين سنة (1481م) إلى (1499م) يعني: في غضون ثماني عشرة سنة قتل في أوروبا تسعون ألف عالم، من أجل هذا صاروا علمانيين؛ لأن الدين عندهم اضطهدوا العلماء، لكن نحن في ديننا -راجعوا التاريخ الإسلامي- ليس كذلك، نحن في تاريخنا علماء الحياة كعلماء الشرع، كانوا مقربين جدًا من العامة ومن الحكام في الأغلب الأعم، نعم توجد هناك حالات شاذة كما تحصل في أي مجتمع، لكن الأغلب الأعم أن هؤلاء العلماء كانوا مقدمين ولهم مكانتهم، فعلى سبيل المثال: الخليفة العباسي المشهور المأمون كان إذا ترجم عالم من العلماء كتابًا من لغة غير عربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب ذهبًا، تترجم كتاب كيمياء روماني، أو تترجم كتاب طب مصري، الطب القديم للفراعنة، أو تترجم كتابًا هنديًا أو كذا يوزن هذا الكتاب وتعطى ذهبًا بوزن الكتاب الذي ترجمته.

ماذا عن أخبار الترجمة عند البلاد الإسلامية؟

ترجم اليهود مائة كتاب سنويًا لكل مائة ألف مواطن، أما العالم العربي كله فيترجم ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن.

انظروا إلى هذه المقارنات! اليهود تترجم مائة كتاب إلى اللغة العبرية لكل مائة ألف مواطن، وهم خمسة أو ستة ملايين، كل ذلك؛ من أجل أن ينقلوا لهم العلم الإنجليزي والفرنسي والصيني والياباني وغيره، بينما في العالم العربي كله، كل هذه الدول وهذه الأموال الرهيبة المكدسة لا يترجمون سوى ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن، هذا قليل جدًا، لكن المأمون كان يعطي المترجم وزن الكتاب ذهبًا؛ من أجل نشاط حركة الترجمة، فنقلت إلينا علومًا هائلة، أين التشجيع على هذا الأمر؟ هذا في غاية الأهمية يا إخواني!

وهذا أبو يعقوب يوسف المريني من هذا أبو يعقوب يوسف المريني ؟ الناس التي لم تسمع عن الأندلس لا تعرفه، أبو يعقوب يوسف المريني هذا كان زعيم دولة بني مرين كانت في المغرب، وكان رجلًا من عظماء قواد المسلمين في التاريخ -لعل الكثير لم يسمع عن أبي يعقوب يوسف المريني وكان قد أسر مجموعة من الصليبيين في إحدى المعارك فقام بمبادلات مع جيش الصليبيين، بادلهم الأسرى بكتب إسلامية كان الصليبيون قد أخذوها من مكتبة قرطبة لما دخلوها، وحفظ هذه الكتب التي كان فيها معظم علم الأندلس.

انظروا إلى الفكر الذي كان عنده.

أيضًا خلفاء المسلمين في الدولة العباسية يسقطون الجزية عن النصارى واليهود في البلد إذا قاموا بالترجمة، واشتغلوا بالعلوم، وكانوا يردون الأسرى إلى الصليبيين في القسطنطينية وفي غيرها، على أن يسمح لعلماء المسلمين أن يذهبوا إلى المكتبات هناك فيترجموا الكتب التي عندهم.

هذا يدل على قيمة العلم في تاريخ الحضارة الإسلامية.

رأينا محاكمة كوبرنيوكوس ومحاكمة غاليليو.

انظروا إلى محاكمة عباس بن فرناس رحمه الله، عباس بن فرناس من علماء المسلمين الأفاضل المشهورين في الأندلس، كان عالمًا في العلوم الحياتية، وكان مبتكرًا ومبدعًا في أمور كثيرة، ليس فقط في محاولة الطيران، لكن كان عنده أكثر من اختراع، وكان مقربًا للخلفاء في زمانه، والخليفة الموجود في زمانه هو عبد الرحمن بن هشام الأموي وهذا العالم عباس بن فرناس كان له حساد، فذهبوا إلى الخليفة واتهموه بالسحر والشعوذة، وقالوا: يخرج من بيته دخان فهو يخلط أشياء بأشياء ويقول كلمات عجيبة وكذا، فأتوا به من أجل أن يحاكموه في هذه المحاكمة، فقيل له: أنت تخلط أشياء بأشياء، فقال: إذا خلطت الدقيق بالماء فصنعت منه عجينًا ثم وضعته فوق النار فصار خبزًا أحرام أن نأكله؟ قالوا: لا، ليس حرامًا بل هو مما أخبرنا الله أنه حلال، فقال: هكذا أفعل، أنا أخلط مادة بمادة وأسخنها من أجل أن أخرج شيئًا ينفع المسلمين، فطلبوا منه شاهدًا، من الشاهد؟ إنه الخليفة عبد الرحمن بن هشام فأتوا بالخليفة إلى المحكمة، فقعد يسمع المحاكمة ثم قام وقال: أشهد أنه يفعل كذا وكذا، وكل هذه الأمور لها أصول عنده، وما علمت عنه إلا التقوى والورع والعلم.

انظروا خليفة المسلمين وقائد الدولة كلها أتوا به إلى المحكمة ليشهد فشهد لصالح هذا العالم، فحفظت له مكانته رحمه الله! هذه قيمة العلماء.

إذًا: ليس هناك معنى لأن ينادي العلمانيون في بلادنا الإسلامية وفي غيرها من بلاد العالم أن يبتعد المسلمون عن دينهم؛ لينهضوا، أبدًا لم يكن ديننا عقبة في سبيل النهوض العلمي بأنواعه، لكن العلمانيون الذين درسوا المناهج الأوروبية ورأوا ما فعلته الكنيسة الكاثوليكية بالعلماء الغربيين ظنوا أن كل دين يفعل هذا الأمر بالعلماء، لكن الدين الإسلامي حض على العلم من أول يوم وإلى الآن وإلى يوم القيامة.

إذًا: هذه العلوم تتماشى مع الدين الإسلامي في كل فروعه، فقد حض على العلم بكل أنواع العلوم من علوم شرعية أو علوم حياتية.

هذه هي الأدلة على كون العلوم الحياتية علومًا شرعية، فتلك عشرة كاملة، هذه عشرة أدلة كما قلنا، يتضح من خلالها أن العلوم الحياتية هي علوم أخروية، فينبغي الاهتمام بها، فالطالب الذي يذاكر هذه العلوم وغيرها فوقت المذاكرة في ميزان حسناته إن شاء الله، بشرط أن توجه هذه النية لله عز وجل، وكذلك تذاكر أو تحضر العلوم وتحاول أن تبدع في المجال الذي أنت فيه؛ لأجل رفعة أمتك ولأجل الثواب من رب العالمين سبحانه وتعالى، بهذه النية تؤجر على هذا العمل، وبهذه الروح تتقدم الأمة إن شاء الله إلى أعلى الدرجات.

في المحاضرة القادمة إن شاء الله سنذكر بعض الأمور التي بها تكون عالمًا إن شاء الله رب العالمين وبغيرها يستحيل أن تكون عالمًا، فهي أمور معينة لا بد منها حتى تصير عالمًا، وبغيرها لن ينفع أن نكون علماء، كيف نصبح علماء؟ هذا هو حديثنا إن شاء الله في المحاضرة القادمة.

أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

"فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كيف-تصبح-عالما
اقرأ أيضا
ثبات أم موسى أمام الابتلاءات | مرابط
تفريغات المرأة

ثبات أم موسى أمام الابتلاءات


ننتقل إلى قصة أخرى من قصص النساء في القرآن الكريم: ألا وهي قصة أم موسى صلى الله عليه وسلم.. هذه المرأة التي ربط الله على قلبها.. هذه المرأة التي أوتيت خيرا كثيرا.. هذه المرأة بلغ بها الخير أن الله أوحى إليها وحيا من نوع خاص ليس من وحي الأنبياء لما ولدت يوسف وأرضعته أوحى إليها إذا خافت عليه من جند فرعون الذين كانوا يذبحون أولاد بني إسرائيل أن تلقيه في اليم.

بقلم: محمد المنجد
325
خطر البدعة الإضافية على الشرع | مرابط
تفريغات

خطر البدعة الإضافية على الشرع


لا فرق عند العلماء بين إخراج الحق من الدين وبين إدخال الباطل فيه لأن كلاهما بخلاف مراد الشارع فإخراج الحق من الدين يساوي إدخال الباطل فيه ونحن بمناسبة الكلام على البدعة وعن أثرها في تأسيس محنة المسلمين اليوم لابد أن نلقي ضوءا جليا واضحا على جيل الصحابة وكيف كانوا يواجهون البدع

بقلم: أبو إسحق الحويني
1224
الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية | مرابط
فكر الإلحاد ثقافة

الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية


الإعلام الترفيهي سلاح فكري ذو أثر شديد في نفوس المتلقين وفاعلية هذا الأثر تنجم من كونه يأتي من غير مظنته فليس هذا النوع من الإعلام مقصودا لمتطلب الأفكار الموافقة أو المخالفة ولم يكن حتى عهد قريب سوى آلة قتل للوقت وإلهاء عن الواقع وملء للفراغ ومن ثم تعود المتلقي أن يفتح حصونه أمامه مطمئنا لكونه يروح عن نفسه بما لا يستحق منه كثير تأمل ونظر وبما لا يتحد أفكاره ومسلماته فيفتح طواعية نوافذ لاوعيه لسيل دفاق من المؤثرات السمعية والبصرية

بقلم: ماهر أمير
610
ذم الترف والتبذير | مرابط
تفريغات

ذم الترف والتبذير


إن الدنيا متقلبة لا تدوم وهي لا تسير على حال واحدة ووتيرة واحدة فعرس يقام فتنصب له خيمة بأربعين ألف دينار فتستعمل مرة واحدة فقط فكم بطن جائع تطعم بقيمة هذه الخيمة ولقد وصل الترف وللأسف إلى المسلمين الذين يؤمون المساجد ولعل بعض الإخوة الحاضرين من هؤلاء يقيمون الحفلات في الفنادق الضخمة وينفقون على ذلك الألوف من الأموال التي تذهب إلى جيوب السفهاء الذين يضيرون أمة الإسلام

بقلم: عمر الأشقر
515
التفريط الديني والتهكم بالمتدينين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التفريط الديني والتهكم بالمتدينين


كيف يتخلص الإنسان كليا من ضغط التأنيب الداخلي الحقيقة أن السخرية بالمتدينين من أهم الوسائل التي توفر للإنسان الراحلة الكلية من هذه الضغوط وضع الصورة المطلوبة في قالب هزلي يبدد نفوذها على النفس البشرية ولذلك نبه القرآن إلى هذه العلاقة بين التفريط والسخرية

بقلم: إبراهيم السكران
482
آيات من سورة ق | مرابط
اقتباسات وقطوف

آيات من سورة ق


ففي قوله:أفلم ينظروا إلى السماء الضمير يعود إلى هؤلاء الذين كذبوا بالبعث وقالوا:أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد فحثهم الله عز وجل حثا بتوبيخ إلى أن ينظروا إلى السماء التي فوقهم:كيف بنيناها أي: بنيناها بقوة وجعلناها سقفا محفوظا وجعلناها سقفا مستويا سليما:رفع سمكها فسواهاالمرسلات:28 وليس فيها من فروج ولا شقوق ولا عيب على طول الأزمنة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل

بقلم: ابن عثيمين
606