وقبل بداية كل درس كان الشيخ يصلي النافلة البعدية ركعتين في مؤخرة المسجد.. فكنت أدع كل ما بيدي ويشخص بصري أتأمل صلاته.. وقد شهدت شيئًا ما عهدته من قبل.. في سكون يديه وهما يرتفعان للتكبير.. وسكونه في انتقالات الصلاة.. وإطالته الركوع الذي يقصره الناس..
كنت أنظر له وليس بين لحيته المطأطئة ويده المقبوضة على صدره إلا صوت تراتيل قرآن يهمس به.. ومن أعجب مشاهد المصلين الخاشعين ما يغزو النفوس من الشعور بالهالة الإيمانية التي تطوقهم.. حتى يعتري الخجل من بجانبهم من الحديث ورفع الصوت.. كأنما ينشر الخشوع في المكان رسالة استنصات..
تضخمت المقارنات في داخلي .. وعاد السؤال مجددًا .. هل ما أرى من حولي في مجتمعي القريب هو الوضع الطبيعي؟ هل كثرة الحركة في الصلاة والانتقالات بلا سكينة التي اعتدت رؤيتها في كثير من المصلين من حولي حتى انطبعت بها لا شعوريًا هي الصورة المألوفة؟ هل نحن في الطريق الخاطئ ونحن لم نستشعر أصلًا أن ثمة قصور؟
بعض المصلين يسحب شماغه إلى اليمين ليعتدل المرزام، ثم يشعر أنه غير متوازن فيسحبه لليسار مرةً أخرى .. ومصلٍّ آخر يزيح كمّه عن ساعته اليدوية في معصمه ويعيد ضبط عقاربها على ساعة الحائط التي أمامه ويراوح النظر بين الساعتين حتى تتطابق العقارب.. وآخر إذا سجد تلعب أصابعه على الموكيت يرسم دوائر ويمحوها .. ومصلٍ بجانبك يتحول إلى حديقة غنّاء تصفر عصافير فمه يصون بلسانه بقايا الطعام ويستمتع بالأصوات التي يسحبها بين فجوات أسنانه..
أما الانتقالات بين أركان الصلاة فكثير من الناس يهجم بحركات شعثاء .. لا يداري النزول والقيام بسكينة وإخبات..
هذه المظاهر مجرد أمثلة من جملة مظاهر كثيرة صرت أدقق فيها قبل أن لم أكن كذلك .. بل لقد كنت أراها مظاهر طبيعية وليست موضع تدقيق واستشكال أصلًا .. بل وبكل شفافية مع القارئ لقد اكتسبت –للأسف- كثيرًا من هذه التصرفات وانطبعت في سلوكي، ثم جاهدت نفسي لاحقًا على قطع كثيرٍ منها، ومازلت أكابد كشط نتوءات العادات.. وعجزت عن قطعها البتّة..
المصدر:
مقال صفاء الأنبجانية