دير ياسين والتطهير العرقي

دير ياسين والتطهير العرقي | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

473 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نهج المنظمات الصهيونية

مذبحة دير ياسين وغيرها من أعمال الإرهاب والتنكيل، إحدى الوسائل التي انتهجتها المنظمات الصهيونية المسلحة من أجل السيطرة على الأوضاع في فلسطين وتطهيرها عرقيًا تمهيدًا لإقامة الدولة اليهودية الخالصة حسب الخطة داليت.

تقع قرية دير ياسين على بُعد بضعة كيلو مترات من القدس على تل يربط بينها وبين تل أبيب. وكانت القدس آنذاك تتعرض لضربات متلاحقة، وكان العرب، بزعامة البطل الفلسطيني عبد القادر الحسيني، يحرزون الانتصارات في مواقعهم. لذلك كان اليهود في حاجة إلى انتصار حسب قول أحد ضباطها "من أجل كسر الروح المعنوية لدى العرب، ورفع الروح المعنوية لدى اليهود"، فكانت دير ياسين فريسة سهلة لقوات الإرجون. كما أن المنظمات العسكرية الصهيونية كانت في حاجة إلى مطار يخدم سكان القدس. كما أن الهجوم وعمليات الذبح والإعلان عن المذبحة هي جزء من نمط صهيوني عام يهدف إلى تفريغ فلسطين من سكانها عن طريق الإبادة والطرد. كان يقطن القرية العربية الصغيرة 400 شخص، يتعاملون تجاريًا مع المستوطنات المجاورة، ولا يملكون إلا أسلحة قديمة يرجع تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى.

في فجر 9 أبريل عام 1948 دخلت قوات الإرجون من شرق القرية وجنوبها، ودخلت قوات شتيرن من الشمال ليحاصروا القرية من كل جانب ما عدا الطريق الغربي، حتى يفاجئوا السكان وهم نائمون. وقد قوبل الهجوم بالمقاومة في بادئ الأمر، وهو ما أدَّى إلى مصرع 4 وجرح 40 من المهاجمين الصهاينة. وكما يقول الكاتب الفرنسي باتريك ميرسييون: "إن المهاجمين لم يخوضوا مثل تلك المعارك من قبل، فقد كان من الأيسر لهم إلقاء القنابل في وسط الأسواق المزدحمة عن مهاجمة قرية تدافع عن نفسها.. لذلك لم يستطيعوا التقدم أمام هذا القتال العنيف".

 

الاستعانة بقوات البالماخ

ولمواجهة صمود أهل القرية، استعان المهاجمون بدعم من قوات البالماخ (الاشتراكية اليسارية!) في أحد المعسكرات بالقرب من القدس، حيث قامت من جانبها بقصف القرية بمدافع الهاون لتسهيل مهمة المهاجمين. ومع حلول الظهيرة أصبحت القرية خالية تمامًا من أية مقاومة، فقررت قوات الإرجون وشتيرن (والحديث لميرسييون) "استخدام الأسلوب الوحيد الذي يعرفونه جيدًا، وهو الديناميت. وهكذا استولوا على القرية عن طريق تفجيرها بيتًا بيتًا. وبعد أن انتهت المتفجرات لديهم قاموا "بتنظيف" المكان من آخر عناصر المقاومة عن طريق القنابل والمدافع الرشاشة، حيث كانوا يطلقون النيران على كل ما يتحرك داخل المنزل من رجال، ونساء، وأطفال، وشيوخ". وأوقفوا العشرات من أهل القرية إلى الحوائط وأطلقوا النار عليهم. واستمرت أعمال القتل على مدى يومين. وقامت القوات الصهيونية بعمليات تشويه سادية (تعذيب ـ اعتداء ـ بتر أعضاء ـ ذبح الحوامل والمراهنة على نوع الأجنة)، وأُلقي بـ 53 من الأطفال الأحياء وراء سور المدينة القديمة.

واقتيد 25 من الرجال الأحياء في حافلات ليطوفوا بهم داخل القدس طواف النصر على غرار الجيوش الرومانية القديمة، ثم تم إعدامهم رميًا بالرصاص. وألقيت الجثث في بئر القرية وأُغلق بابه بإحكام لإخفاء معالم الجريمة. وكما يقول ميرسييون: "وخلال دقائق، وفي مواجهة مقاومة غير مسبوقة، تحوَّل رجال وفتيات الإرجون وشتيرن، إلى "جزارين"، يقتلون بقسوة وبرودة ونظام مثلما كان جنود قوات النازية يفعلون". ومنعت المنظمات العسكرية الصهيونية مبعوث الصليب الأحمر جاك دي رينييه من دخول القرية لأكثر من يوم. بينما قام أفراد الهاجاناه الذين احتلوا القرية بجمع جثث أخرى في عناية وفجروها لتضليل مندوبي الهيئات الدولية وللإيحاء بأن الضحايا لقوا حتفهم خلال صدامات مسلحة (عثر مبعوث الصليب الأحمر على الجثث التي أُلقيت في البئر فيما بعد).

وقد تباينت ردود أفعال المنظمات الصهيونية المختلفة بعد المذبحة، فقد أرسل مناحم بيجين برقية تهنئة إلى رعنان قائد الإرجون المحلي قال فيها: "تهنئتي لكم لهذا الانتصار العظيم، وقل لجنودك إنهم صنعوا التاريخ في إسرائيل". وفي كتابه المعنون الثورة كتب بيجين يقول: "إن مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر الأخرى في تفريغ البلاد من 650 ألف عربي". وأضاف قائلًا: "لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل".

وقد حاولت بعض القيادات الصهيونية التنصل من مسئوليتها عن وقوع المذبحة. فوصفها ديفيد شالتيل، قائد قوات الهاجاناه في القدس آنذاك، بأنها "إهانة للسلام العبري". وهاجمها حاييم وايزمان ووصفها بأنها عمل إرهابي لا يليق بالصهاينة. كما ندَّدت الوكالة اليهودية بالمذبحة. وقد قامت الدعاية الصهيونية على أساس أن مذبحة دير ياسين مجرد استثناء، وليست القاعدة، وأن هذه المذبحة تمت دون أي تدخُّل من جانب القيادات الصهيونية بل ضد رغبتها. إلا أن السنوات التالية كشفت النقاب عن أدلة دامغة تثبت أن جميع التنظيمات الصهيونية كانت ضالعة في ارتكاب تلك المذبحة وغيرها، سواء بالاشتراك الفعلي في التنفيذ أو بالتواطؤ أو بتقديم الدعم السياسي والمعنوي.

وقد ذكر ذكر مناحم بيجين في كتابه الثورة أن الاستيلاء على دير ياسين كان جزءًا من خطة أكبر وأن العملية تمت بكامل علْم الهاجاناه "وبموافقة قائدها" (بن جوريون)، وأن الاستيلاء على دير ياسين والتمسك بها يُعَد إحدى مراحل المخطط العام رغم الغضب العلني الذي عبَّر عنه المسئولون في الوكالة اليهودية والمتحدثون الصهاينة.

وقد ذكرت موسوعة الصهيونية وإسرائيل (التي حررها العالم الإسرائيلي روفائيل باتاي) أن لجنة العمل الصهيونية (اللجنة التنفيذية الصهيونية) وافقت في مارس من عام 1948 على "ترتيبات مؤقتة، يتأكد بمقتضاها الوجود المستقل للإرجون، ولكنها جعلت كل خطط الإرجون خاضعة للموافقة المسبقة من جانب قيادة الهاجاناه".

وقد أقر الصهيوني العمالي مائير بعيل في السبعينيات بأن مذبحة دير ياسين كانت جزءًا من مخطط عام (الخطة داليت)، اتفقت عليه جميع التنظيمات الصهيونية في مارس 1948، وكان يهدف إلى طَرْد الفلسطينيين من المدن والقرى العربية قبيل انسحاب القوات البريطانية، عن طريق التدمير والقتل وإشاعة جو من الرعب والهلع بين السكان الفلسطينين وهو ما يدفعهم إلى الفرار من ديارهم. ولهذا لا غرو أنه بعد ثلاثة أيام من المذبحة، تم تسليم قرية دير ياسين للهاجاناه لاستخدامها مطارًا.

 

ليست حوادث فردية

وأيًا ما كان الأمر، فالثابت أن مذبحة دير ياسين والمذابح الأخرى المماثلة لم تكن مجرد حوادث فردية أو استثنائية طائشة، بل كانت جزءًا أصيلًا من نمط ثابت ومتواتر ومتصل، يعكس الرؤية الصهيونية للواقع والتاريخ والآخر، حيث يصبح العنف بأشكاله المختلفة وسيلة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية وتنقيتها من السمات الطفيلية والهامشية التي ترسخت لديها نتيجة القيام بدور الجماعة الوظيفية.

كما أنه أداة تفريغ فلسطين من سكانها وإحلال المستوطنين الصهاينة محلهم وتثبيت دعائم الدولة اليهودية الخالصة وفَرْض واقع جديد في فلسطين يستبعد العناصر الأخرى غير اليهودية المكوِّنة لهويتها وتاريخها. ولذا من الخلل بمكان أن نتحدث عن النكبة وكأن ما حدث في دير ياسين كان مجرد "حوادث" وقعت بسبب الحرب بين طرفين. يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، وما حدث لم يكن نكبة بل كان تطهيرًا عرقيًا تم حسب خطة منظمة مبيتة.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#دير-ياسين
اقرأ أيضا
نموذج من وصايا العلماء النافعة لطلبة العلم | مرابط
تعزيز اليقين

نموذج من وصايا العلماء النافعة لطلبة العلم


وصية من الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلى أحد السائلين بعد أن طلب منه أن يضع منهجا ليسير عليه في حياته ومن هنا أخذ يفصل في جوانب عديدة مثل حالنا مع الله ومع الرسول والعمل اليومي وطلب العلم وغير ذلك من المحاور

بقلم: ابن عثيمين
407
هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هل أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالا من الإنجيل على أنها أحاديث


ليس من الإنصاف في شيء أن نقول: إن ما وجد في الدين الإسلامي ووجد في اليهودية أو النصرانية أن يكون مأخوذا منها فقد توافق القرآن الكريم الذي لا شك في تواتره وصونه عن أي تحريف والتوراة والإنجيل في بعض التشريعات والأخلاقيات والقصص فهل معنى هذا أنه مأخوذ منها أعتقد أن الجواب بالنفي ومما ينبغي أن يعلم أن الشرائع السماوية مردها إلى الله سبحانه وأن العقائد والفضائل الثابتة والضروريات التي لا تختلف باختلاف الأزمان ولا باختلاف الرسالات أمور مقررة في كل دين

بقلم: محمد أبو شهبة
1468
حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج1 | مرابط
تفريغات

حرب التتار للخلافة العباسية ببغداد ج1


بين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للدكتور راغب السرجاني يدور حول الاجتياح المغولي للعراق والذي يعتبر من أبرز الأحداث في تاريخنا الإسلامي حيث يحمل الكثير من المآسي والعبر والدروس التي يجب أن نتعلمها فيما يخص تعامل المسلمين مع الأعداء

بقلم: راغب السرجاني
815
الدفاع عن السنة الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الدفاع عن السنة الجزء الثاني


النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان جاء النبي فخالف كثيرا من أعراف العرب وأهواء الجاهلية ولذلك رموه عن قوس واحدة وجاء يقول لهم: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها وقتلت أشراف الناس فيها وسبيت النساء وكان العرب أصحاب غيرة إذا هم فهموا معنى: لا إله إلا الله وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

بقلم: أبو إسحق الحويني
602
كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة | مرابط
تاريخ

كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة


عن ابن عمر قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء دخل إلى أهله أو قال جمع أهله فقال: إني نهيت عن كذا وكذا والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا وإني والله لا أوتي برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر

بقلم: حاكم المطيري
531
القلة المؤمنة | مرابط
فكر مقالات

القلة المؤمنة


يتمنى الصالحون من أبناء هذه الأمة دائما أن يشاهدوا أمتهم في مقدمة الأمم وأن يسعدوا -وتسعد الدنيا معهم- بعزتها وقوتها ومجدها لكن مع أن الأمنية واحدة إلا أن الكثير يختلف في طريق الوصول إليها والواضح أن التاريخ لا يصنعه إلا فئة قليلة مؤمنة ثابتة يكتب الله لهم النصر وهذا ما يستعرضه الكاتب في المقال

بقلم: د راغب السرجاني
2008