مبدأ النبوة وادعاء النبوة

مبدأ النبوة وادعاء النبوة | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

674 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مبدأ النبوة

إن مبدأ النبوة يعرض نفسه بفضل شاهده الوحيد -النبي- بوصفه ظاهرة موضوعية مستقلة عن الذات الإنسانية التي تعبر عنه.

والمشكلة على وجه التحديد هي معرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بأشياء ذاتية محضة، أو بظاهرة موضوعية كالمغناطيسية مثلًا؛ إن وجود المغناطيسية ينكشف لنا بواسطة الإبرة الممغنطة التي تجسم لنا كمًا وكيفًا الحقائق النوعية؛ لكننا لا نستطيع ملاحظة ظاهرة النبوة إلا من خلال شهادة النبي، وفي محتويات رسالته المتواترة المنزلة، فالأمر يتعلق إذن بمشكلة نفسية من ناحية وتاريخية من ناحية أخرى، ولنا أن نلاحظ أولًا وقبل كل شيء أن بعث نبي ما ليس حدثًا فردًا، ليكون غريبًا نادرًا، بل هو على العكس من ذلك ظاهرة مستمرة تتكرر بانتظام بين قطبين من التاريخ، منذ إبراهيم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. واستمرار ظاهرة تتكرر (1) بالكيفية نفسها، يعدّ شاهدًا علميًا يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها؛ بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل، ومع طبيعة المبدأ.

 

ومن المعلوم بناء على وجهة نظر (هيجل) -التي تعتمد على ملاحظة الظواهر- أننا إذا وجدنا حالة نبوية خاصة لا تفسر شيئًا ولا تثبته، فإن تكررها في ضل بعض الشروط يبرهن على الوجود العام للظاهرة بطريقة علمية، ويبقى علينا أن نبحث في ماهية هذا التكرار، لكي نستخلص من صفاته الخاصة القانون العام الذي يمكن أن يسيطر على الظاهرة في جملتها. فليس هناك من سبب وجيه لكي نسلم مقدمًا بالنبوة بالممعادلة الشخصية (2) للنبي، وهو يقرر أن الأمر يتعلق أو يمكن أن يتعلق بالأعصاب الثائرة، والخيال الشاطح، والفكر الذي أزاغته ظواهر ذاتية محض.

 

إن حياة الأنبياء وتاريخهم يمنعاننا من أن نعدهم مؤمنين مندفعين دون تعقل وبكل بساطة، إلى الخوارق والمعجزات، أو أن نحكم بأنهم معتوهون بأصل خلقتهم، اختلت عقولهم وبصائرهم بنقائص مزمنة؛ فهم يمثلون -على العكس- الإنسان في أسمى حالات كماله البدني والخلقي والعقلي، وشهاداتهم الإجماعية تحظى في نظرنا بالثقة التي تستحقها. وإذن فمن الواجب في المقام الأول أن نلجأ إلى هذه الشهادة لكي نثبت القيمة التاريخية للوقائع التي نخضعها لنقدنا، ثم يبقى علينا أن نحلل مجموع هذه الوقائع في ضوء العقل المتحرر من ربقة الشك المطلق الذي لا هدف له.

 

ولذا فسنحاول أن نبحث حالة النبي (أرمياء) الذي اخترناه من أجل الضمانات التاريخية، التي تخول كتابه وتاريخه الشخصي قيمة الحقيقة الموضوعية، والواقع أن البروفسور (مونتيه، Montet) قد توصل في دراسته للوثائق الدينية إلى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية، فيما عدا كتاب (أرمياء) (٢)، ومع ذلك فنحن نريد أن نتحاشى مساوئ النقد الحديث للكتاب المقدس، الذي يبدو لنا أنه قد أخطأ في فهم طبيعة الموضوع بهذا التعميم المفرط للشك الديكارتي، والذي يؤدي غالبًا إلى تفسير متعسف للحقائق النفسية التي هي الأساس في هذا الموضوع.


أما عن ادعاء النبوة

إن التعميم الؤسف الذي وصفناه قد أدى إلى وضع (مبدأ النبوة) بين مجموعة ظواهر نفسية تدرس تحت اسم (الظواهر الباطنة) Phènomènes Pneumaiques، ويبدو لنا أن هذا التعميم منسوب إلى المصدر العبري خاصة، لأن النقد الحديث يستقي منه أسانيده عن الموضوع.

 

هذه الأسانيد هي في الواقع الخطوطات الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهي التي كانت مصدرًا للمعلومات الرئيسية عن الحركة النبوية.

 

على حين أن هذه الحقبة من التاريخ الإسرائيلي لم تكن فترة ارتقاء روحي، بل هي الأخرى فترة تدهور خلقي وديني، ناتج عن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وهذا التدهور هو على وجه التحديد موضوع دعوة الأنبياء منذ (عاموس) Amos ومعاصريه (ميخا) Michée و (هوشع) Osée الذين لم يأتوا ليعلنوا وعد البشارة والغفران، بل ليبلغوا وعيد العقوبة والبلاء.

 

وتفسير ذلك من وجهة نظر التاريخ هو أنه حدث في ذلك العصر أمران هامان هما: هبوط درجة (رب العالمين) إلى مجرد إله قومي- من ناحية-، ودخول كثير من الشعائر والطقوس الآشورية الكلدانية في العبادة من ناحية أخرى، حتى أصبحت الشمس تتمتع بتقديس حار في بيت المقدس، فقد كان هناك (رجال يعبدون الشمس المشرقة، وفي أيديهم غصن، بالقرب من هيكل الرب نفسه) كما يقول مؤرخو تلك الفترة.

 

ولكن إذا كان المستوى الروحي قد انحط تبعًا لهذا التلفيق والتأميم لفكرة الإله الواحد، فإن النشاط الديني الذي التزمته طقوس العبد أو نمّته، كان يغذي في روح إسرئيل المتصوفة حمية واندفاعًا تمسك الإسرائيليون بمظاهرهما العامة على أنهما أجزاء مكلة للحركة الدينية.

 

فقد تكاثر الكهان والعرافون وأهل الكشف في بيت المقدس، وكانوا موضع احترام الشعب أو خوفه، لما خصهم به من المقدرة الخارقة. ولا كان من الضروري إطلاق اسم على هؤلاء الذين يحظون بهذا الاحترام، فقد أطلق عليهم جميعًا اسم (الأنبياء) نظرًا لعدم وجود مصطلح اشتقاقي مناسب لهم (4).

 

ونحن نعرف في إفريقيا الشمالية مثالًا لتطور المفردة ذات المعنى الأصلي االخاص إلى مضمون عام، فإن لفظ (المرابط) كان يطلق في الأصل على عضو في إحدى جمعيات الأخوة الدينية العسكرية، الذي كان من مهمتهم السهر على حدود (دار الإسلام)، وما حدث لهذه اللفظة فيما بعد معروف (5).

 

وعلى كل حال فإن الاستعمال الدارج لهذا اللفظ لم يقتصر على الاستعمال الشعبي، فقد كان له أيضًا حق التطرق إلى الأدب الديني في هذا العصر. وكان يطلق خاصة على الموظف الكهنوتي المكلف رسميًا بالتبشير في العهد.

 

وسيطلق لفظ (النبي) أيضًا على كاهن الإله (بعل)، كما يلاحظ ذلك في كتاب (يونان) أو يونس. وعندما جاء الأنبياء مثل (عاموس وأرمياء) ليقلبوا هذا المجتمع البدعي بصرخاتهم وتنبؤاتهم المروعة التي خلقت جوًا مضطربًا، وأستحوذ على الجماهير لون من المحاكاة أو التقليد تبعًا للموقف الجديد، بدأ جميع (الأنبياء) في التنبؤ، كلٌّ من ناحيته، وبذلك نشأت حركة التنبؤات المزعومة، فوجدنا كلا الوجهين: رجل الدعوة الصادق ومدعي النبوة، يتطوران معًا في تاريخ هذه الحقبة التي منحت إقبالها أحيانًا لنبي مدّعٍ هو (حنانيا)، بينما تصاممت عن الدعوة اليائسة المروعة للنبي (أرمياء).

 

وعلى كل، فإن هذا العصر قد خلط بين شخصيتين متميزتين، وغالبًا متخاصتين، وتمثلان تيارين مختلفين للفكر متعارضين غالبًا. ولقد تجلى هذا الخلط في التعميمات المفرطة في الدراسات الحالية للظاهرة النبوية، وهي التعميمات التي تقحم الصفات الخاصة بالنبي في نموذج مطرد هو: (العراف). ومن خلال هذا النموذج يريد النقد الحديث أن يكشف حقيقة النبوة التي سبق أن اعتبرها ظاهرة ذاتية، وهو بذلك يعطل منذ البداية دراسة الظاهرة حين يؤكد (أن ما يراه العراف ويسمعه في حالات انجذابه وغيبوبته رهن بشخصيته، وربما يكون هذا ثمرة ناضجة في اللاشعور، من تأملاته ومن أحواله الدينية السابقة، ومن ميوله الداخلية المتعمقة في وجوده كله، التي تتجلى حينئذ أمام ضميره كأشياء تبدو له خارجة عنه).

 

هذا النص يهدف بوضوح إلى جعل النبوة من المجال الذاتي للنبي، دون أن يهتم بشهادة هذا الأخير الذي يؤكد بكل قوة أنه يرى ويسمع موضوعه خارج مجاله الشخصي.

 


 

المصدر:

مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص87

 

الإشارات المرجعية:

  1. يتصل بهذا المعنى الآية الكريمة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف ٩/ ٤٦].
  2. المعادلة الشخصية هي مجموعة من الطاقات والإمكانيات الشخصية تكون (الأنا). (المترجم)
  3. تضم الحركة النبوية الإسرائيلية سبعة عشر نبيا منهم أربعة أكابر هم: أشعياء وأرمياء وحزقيال ودانيال، وقد قيل لهم ذلك لأنهم ذوو أسفار أكبر من أسفار غيرهم. وقد وزعت نبوتهم على أربعة قرون بعثوا خلالها في أعقاب بعض (٨٣٠ - ٤٣٥ ق. م) وأولهم (يونى ويوئيل) (٨٣٠ ق. م). وآخرم (ملاخى) (٤٣٥ ق. م). ثم جاء بعده (يوحنا المعمدان) الذي ظهر على إثره المسيح عليه السلام. ((المترجم))
  4. جاء في الحاشية على الجزء الثاني من الكتاب المقدس طبعة اليسوعيين صفحة ٨٦٣ ((يطلق النبي عند اليهود على كل كاتب ملهم فيدخل في ذلك (موسى وصموئيل). أما في عرف الكنيسة فيراد به من صدق عليه وصف النبوة من جهة معناها الوضعي أي الإنباء اليقين بحوادث آتية لا يمكن أن يهتدى إليها بأسبابها ومقدهاتها بمجرد استدلال العقل)). (المترجم)
  5. قصد بلفظ (مرابط) في التاريخ أحد معان ثلاثة على التوالي فهو في البداية كان المعنى المذكور ثم أطلق عنوانًا على الدولة المعروفة في تاريخ المغرب والأندلس ثم أخيرًا صار عنوانًا على الدراويش أهل ((الزردة)) أي الولائم المعتادة في أذكار المتصوفة الآن. (المترجم)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مبدأ-النبوة
اقرأ أيضا
حول بيع وشراء القطط | مرابط
مقالات

حول بيع وشراء القطط


انتشر بين المسلمين اليوم ظاهرة شراء وبيع القطط والحيوانات بشكل عام فما حكم ذلك شرعا؟ يجيبك الدكتور قاسم اكحيلات ويوضح لك مذهب الجمهور وتفصيلات المسألة والصواب فيها.

بقلم: قاسم اكحيلات
404
نماذج لشخصيات ناقدة للجندر: دكتور ليناردو ساكس | مرابط
الجندرية

نماذج لشخصيات ناقدة للجندر: دكتور ليناردو ساكس


بين يديكم مقال يعرض لنا أحد النماذج الغربية الناقدة للجندرية الجديدة وهو الدكتور ليوناردو ساكس الذي تنبه لهذه المشكلة منذ ما يزيد عن عشرين سنة وأصدر عددا من المؤلفات والمقالات يحلل فيها هذه الأزمة ويحذر منها ويشير إلى مآلاتها ومخاطرها

بقلم: مجلة أوج
705
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2


نحن لا نفهم قيمة العلوم الحياتية حقيقة وبالذات الشباب الملتزم الذي له واجهة إسلامية واضحة فهو لا يعطي هذا الأمر قدرا وقد ساهم في ذلك -وللأسف الشديد- بعض علماء المسلمين فبعض علماء المسلمين قديما وإلى الآن يسير على نهجهم البعض صنفوا العلوم إلى علوم شرعية وحياتية إلى علوم دينية ودنيوية أو علوم أخروية ودنيوية فقالوا: علوم الدين كالفقه والتوحيد والتفسير والحديث وما إلى ذلك وقالوا: علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم فما الذي نتج عن ذلك نتج أن الإنسان الملتزم بدينه يشعر بحرج شديد أ...

بقلم: د راغب السرجاني
695
محاسن الإسلام: وجود النموذج العملي المطبق للحقائق النظرية | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

محاسن الإسلام: وجود النموذج العملي المطبق للحقائق النظرية


إن من محاسن الإسلام أنه دين جاء بالمعرفة وبتطبيقها وأوصى بالأخلاق وفرض الشرائع وقدم النموذج الذي التزمها وطبقها وذلك كله متمثل في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- العملية وسيرته التي نجد فيها الامتثال التام والالتزام الكامل لما أمر الله به في القرآن ولذلك قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: كان خلقه القرآن1

بقلم: أحمد يوسف السيد
862
إشكالية المصطلح النسوي | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي


تظهر إشكالية المصطلح النسوي فيما يتعلق برخاوة الدلالة كحال مصطلح الأدوار النمطية والمقصود به طريقة توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة فهناك ضبابية شديدة في استعمالاته ويستعمل بدون ضبط لدلالاته والسبب في ذلك أنه لا يمكن ضبط دلالته بشكل دقيق

بقلم: د خالد عبد العزيز
801
أمنيات التفسير | مرابط
مقالات

أمنيات التفسير


بعض أهل الأهواء يذكر أحيانا آيات يحتج بها على مقتضى هواه وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا التفسير للآية الذي يطرحه مجرد أمنية أكثر من كونه يقين بمعنى الآية فهو في الحقيقة يتمنى فقط أن يكون معنى الآية كما يريد. تأمل في كثير من التفسيرات والتأويلات والتجديدات التي تطرح اليوم للنصوص الشرعية أليس أكثرها مجرد أمنيات تأويلية يعلم ملقيها وكاتبها قبل غيره أنه يتمنى فقط!

بقلم: إبراهيم السكران
444