مبدأ النبوة وادعاء النبوة

مبدأ النبوة وادعاء النبوة | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

583 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مبدأ النبوة

إن مبدأ النبوة يعرض نفسه بفضل شاهده الوحيد -النبي- بوصفه ظاهرة موضوعية مستقلة عن الذات الإنسانية التي تعبر عنه.

والمشكلة على وجه التحديد هي معرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بأشياء ذاتية محضة، أو بظاهرة موضوعية كالمغناطيسية مثلًا؛ إن وجود المغناطيسية ينكشف لنا بواسطة الإبرة الممغنطة التي تجسم لنا كمًا وكيفًا الحقائق النوعية؛ لكننا لا نستطيع ملاحظة ظاهرة النبوة إلا من خلال شهادة النبي، وفي محتويات رسالته المتواترة المنزلة، فالأمر يتعلق إذن بمشكلة نفسية من ناحية وتاريخية من ناحية أخرى، ولنا أن نلاحظ أولًا وقبل كل شيء أن بعث نبي ما ليس حدثًا فردًا، ليكون غريبًا نادرًا، بل هو على العكس من ذلك ظاهرة مستمرة تتكرر بانتظام بين قطبين من التاريخ، منذ إبراهيم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. واستمرار ظاهرة تتكرر (1) بالكيفية نفسها، يعدّ شاهدًا علميًا يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها؛ بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل، ومع طبيعة المبدأ.

 

ومن المعلوم بناء على وجهة نظر (هيجل) -التي تعتمد على ملاحظة الظواهر- أننا إذا وجدنا حالة نبوية خاصة لا تفسر شيئًا ولا تثبته، فإن تكررها في ضل بعض الشروط يبرهن على الوجود العام للظاهرة بطريقة علمية، ويبقى علينا أن نبحث في ماهية هذا التكرار، لكي نستخلص من صفاته الخاصة القانون العام الذي يمكن أن يسيطر على الظاهرة في جملتها. فليس هناك من سبب وجيه لكي نسلم مقدمًا بالنبوة بالممعادلة الشخصية (2) للنبي، وهو يقرر أن الأمر يتعلق أو يمكن أن يتعلق بالأعصاب الثائرة، والخيال الشاطح، والفكر الذي أزاغته ظواهر ذاتية محض.

 

إن حياة الأنبياء وتاريخهم يمنعاننا من أن نعدهم مؤمنين مندفعين دون تعقل وبكل بساطة، إلى الخوارق والمعجزات، أو أن نحكم بأنهم معتوهون بأصل خلقتهم، اختلت عقولهم وبصائرهم بنقائص مزمنة؛ فهم يمثلون -على العكس- الإنسان في أسمى حالات كماله البدني والخلقي والعقلي، وشهاداتهم الإجماعية تحظى في نظرنا بالثقة التي تستحقها. وإذن فمن الواجب في المقام الأول أن نلجأ إلى هذه الشهادة لكي نثبت القيمة التاريخية للوقائع التي نخضعها لنقدنا، ثم يبقى علينا أن نحلل مجموع هذه الوقائع في ضوء العقل المتحرر من ربقة الشك المطلق الذي لا هدف له.

 

ولذا فسنحاول أن نبحث حالة النبي (أرمياء) الذي اخترناه من أجل الضمانات التاريخية، التي تخول كتابه وتاريخه الشخصي قيمة الحقيقة الموضوعية، والواقع أن البروفسور (مونتيه، Montet) قد توصل في دراسته للوثائق الدينية إلى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية، فيما عدا كتاب (أرمياء) (٢)، ومع ذلك فنحن نريد أن نتحاشى مساوئ النقد الحديث للكتاب المقدس، الذي يبدو لنا أنه قد أخطأ في فهم طبيعة الموضوع بهذا التعميم المفرط للشك الديكارتي، والذي يؤدي غالبًا إلى تفسير متعسف للحقائق النفسية التي هي الأساس في هذا الموضوع.


أما عن ادعاء النبوة

إن التعميم الؤسف الذي وصفناه قد أدى إلى وضع (مبدأ النبوة) بين مجموعة ظواهر نفسية تدرس تحت اسم (الظواهر الباطنة) Phènomènes Pneumaiques، ويبدو لنا أن هذا التعميم منسوب إلى المصدر العبري خاصة، لأن النقد الحديث يستقي منه أسانيده عن الموضوع.

 

هذه الأسانيد هي في الواقع الخطوطات الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهي التي كانت مصدرًا للمعلومات الرئيسية عن الحركة النبوية.

 

على حين أن هذه الحقبة من التاريخ الإسرائيلي لم تكن فترة ارتقاء روحي، بل هي الأخرى فترة تدهور خلقي وديني، ناتج عن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وهذا التدهور هو على وجه التحديد موضوع دعوة الأنبياء منذ (عاموس) Amos ومعاصريه (ميخا) Michée و (هوشع) Osée الذين لم يأتوا ليعلنوا وعد البشارة والغفران، بل ليبلغوا وعيد العقوبة والبلاء.

 

وتفسير ذلك من وجهة نظر التاريخ هو أنه حدث في ذلك العصر أمران هامان هما: هبوط درجة (رب العالمين) إلى مجرد إله قومي- من ناحية-، ودخول كثير من الشعائر والطقوس الآشورية الكلدانية في العبادة من ناحية أخرى، حتى أصبحت الشمس تتمتع بتقديس حار في بيت المقدس، فقد كان هناك (رجال يعبدون الشمس المشرقة، وفي أيديهم غصن، بالقرب من هيكل الرب نفسه) كما يقول مؤرخو تلك الفترة.

 

ولكن إذا كان المستوى الروحي قد انحط تبعًا لهذا التلفيق والتأميم لفكرة الإله الواحد، فإن النشاط الديني الذي التزمته طقوس العبد أو نمّته، كان يغذي في روح إسرئيل المتصوفة حمية واندفاعًا تمسك الإسرائيليون بمظاهرهما العامة على أنهما أجزاء مكلة للحركة الدينية.

 

فقد تكاثر الكهان والعرافون وأهل الكشف في بيت المقدس، وكانوا موضع احترام الشعب أو خوفه، لما خصهم به من المقدرة الخارقة. ولا كان من الضروري إطلاق اسم على هؤلاء الذين يحظون بهذا الاحترام، فقد أطلق عليهم جميعًا اسم (الأنبياء) نظرًا لعدم وجود مصطلح اشتقاقي مناسب لهم (4).

 

ونحن نعرف في إفريقيا الشمالية مثالًا لتطور المفردة ذات المعنى الأصلي االخاص إلى مضمون عام، فإن لفظ (المرابط) كان يطلق في الأصل على عضو في إحدى جمعيات الأخوة الدينية العسكرية، الذي كان من مهمتهم السهر على حدود (دار الإسلام)، وما حدث لهذه اللفظة فيما بعد معروف (5).

 

وعلى كل حال فإن الاستعمال الدارج لهذا اللفظ لم يقتصر على الاستعمال الشعبي، فقد كان له أيضًا حق التطرق إلى الأدب الديني في هذا العصر. وكان يطلق خاصة على الموظف الكهنوتي المكلف رسميًا بالتبشير في العهد.

 

وسيطلق لفظ (النبي) أيضًا على كاهن الإله (بعل)، كما يلاحظ ذلك في كتاب (يونان) أو يونس. وعندما جاء الأنبياء مثل (عاموس وأرمياء) ليقلبوا هذا المجتمع البدعي بصرخاتهم وتنبؤاتهم المروعة التي خلقت جوًا مضطربًا، وأستحوذ على الجماهير لون من المحاكاة أو التقليد تبعًا للموقف الجديد، بدأ جميع (الأنبياء) في التنبؤ، كلٌّ من ناحيته، وبذلك نشأت حركة التنبؤات المزعومة، فوجدنا كلا الوجهين: رجل الدعوة الصادق ومدعي النبوة، يتطوران معًا في تاريخ هذه الحقبة التي منحت إقبالها أحيانًا لنبي مدّعٍ هو (حنانيا)، بينما تصاممت عن الدعوة اليائسة المروعة للنبي (أرمياء).

 

وعلى كل، فإن هذا العصر قد خلط بين شخصيتين متميزتين، وغالبًا متخاصتين، وتمثلان تيارين مختلفين للفكر متعارضين غالبًا. ولقد تجلى هذا الخلط في التعميمات المفرطة في الدراسات الحالية للظاهرة النبوية، وهي التعميمات التي تقحم الصفات الخاصة بالنبي في نموذج مطرد هو: (العراف). ومن خلال هذا النموذج يريد النقد الحديث أن يكشف حقيقة النبوة التي سبق أن اعتبرها ظاهرة ذاتية، وهو بذلك يعطل منذ البداية دراسة الظاهرة حين يؤكد (أن ما يراه العراف ويسمعه في حالات انجذابه وغيبوبته رهن بشخصيته، وربما يكون هذا ثمرة ناضجة في اللاشعور، من تأملاته ومن أحواله الدينية السابقة، ومن ميوله الداخلية المتعمقة في وجوده كله، التي تتجلى حينئذ أمام ضميره كأشياء تبدو له خارجة عنه).

 

هذا النص يهدف بوضوح إلى جعل النبوة من المجال الذاتي للنبي، دون أن يهتم بشهادة هذا الأخير الذي يؤكد بكل قوة أنه يرى ويسمع موضوعه خارج مجاله الشخصي.

 


 

المصدر:

مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص87

 

الإشارات المرجعية:

  1. يتصل بهذا المعنى الآية الكريمة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف ٩/ ٤٦].
  2. المعادلة الشخصية هي مجموعة من الطاقات والإمكانيات الشخصية تكون (الأنا). (المترجم)
  3. تضم الحركة النبوية الإسرائيلية سبعة عشر نبيا منهم أربعة أكابر هم: أشعياء وأرمياء وحزقيال ودانيال، وقد قيل لهم ذلك لأنهم ذوو أسفار أكبر من أسفار غيرهم. وقد وزعت نبوتهم على أربعة قرون بعثوا خلالها في أعقاب بعض (٨٣٠ - ٤٣٥ ق. م) وأولهم (يونى ويوئيل) (٨٣٠ ق. م). وآخرم (ملاخى) (٤٣٥ ق. م). ثم جاء بعده (يوحنا المعمدان) الذي ظهر على إثره المسيح عليه السلام. ((المترجم))
  4. جاء في الحاشية على الجزء الثاني من الكتاب المقدس طبعة اليسوعيين صفحة ٨٦٣ ((يطلق النبي عند اليهود على كل كاتب ملهم فيدخل في ذلك (موسى وصموئيل). أما في عرف الكنيسة فيراد به من صدق عليه وصف النبوة من جهة معناها الوضعي أي الإنباء اليقين بحوادث آتية لا يمكن أن يهتدى إليها بأسبابها ومقدهاتها بمجرد استدلال العقل)). (المترجم)
  5. قصد بلفظ (مرابط) في التاريخ أحد معان ثلاثة على التوالي فهو في البداية كان المعنى المذكور ثم أطلق عنوانًا على الدولة المعروفة في تاريخ المغرب والأندلس ثم أخيرًا صار عنوانًا على الدراويش أهل ((الزردة)) أي الولائم المعتادة في أذكار المتصوفة الآن. (المترجم)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مبدأ-النبوة
اقرأ أيضا
المجاهرون | مرابط
تفريغات

المجاهرون


إن الله يحب الستر ويكره التحدث بالكلام الفاحش وإن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه بالحلال لكن لأنه خنا فإنه لا يتحدث به لا يتحدث بأي شيء يثير الشهوات حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء وعدوه من خوارم المروءة حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية فهو مكروه لأنه من خوارم المروءة

بقلم: محمد المنجد
665
الدفع أهون من الرفع | مرابط
فكر

الدفع أهون من الرفع


السؤال الأكثر رواجا بين فئة الشباب وهم يواجهون موجات من عواصف الفتن والإفساد العصرية العاتية التي تهدد دينهم وإيمانهم: ما السبيل الأمثل إلى التصدي لتلك الهجمات؟ وفيما يلي وصفة علاجية تقعيدية نافعة ناجعة فاشدد بها يديك.

بقلم: د. جمال الباشا
343
خرافة قانون الجذب | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف

خرافة قانون الجذب


إن الشريعة جاءت ببيان أن مجرد ما يتردد في النفس من الخواطر والأفكار فليس محلا للمؤاخذة أو المحاسبة ما لم ينتج عنه عمل وهؤلاء يريدون أن يجلعوا الخواطر السيئة بمجردها سببا لنزول المصائب والبلايا مطلقا مناقضين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوسوت به صدورها ما لم تعمل أو تكلم فأصحاب قانون الجذب الفاسد يقلبون الموازين بحصر سبب المصيبة في تفكير من وقعت عليه مغفلين بذلك الأسباب الحقيقية التي أثبتتها نصوص الشرع وقواعد العقل الصحيح

بقلم: عبد الله العجيري
369
الحياة الأدبية والأمة الإسلامية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحياة الأدبية والأمة الإسلامية


لا تستطيع أمة أن تعيش بغير تاريخها والذي يريد أن ينشئ في هذا الزمن أمة أخرى عن طريق التوهم فهو مخطئ وهذا ضرب من العبث الأمم بلسانها فقط الأمم بحركتها الأدبية واللغوية فقط أما الأشياء الأخرى من الصناعة وكذا وكذا والآراء الاجتماعية فهذه زائلة ومتحولة ويمكن أن تتحول في أي وقت لكن إذا تحول التاريخ فلا يمكن أن يبقى إنسان على صورة صحيحة في هذه الحياة.

بقلم: محمود شاكر
281
أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أحاديث المقاهي وإهدار الطاقات


مقتطف رائع لمالك بن نبي من كتاب شروط النهضة يرصد فيه حالة متكررة نراها دائما في مجتمعاتنا العربية ألا وهي الخطب الرنانة التي تلقى على المقاهي كثيرا ما نسمع هناك عبارات نطالب بحقوقنا يجب أن يتغير الواقع ويكون كذا وكذا كلها خطب ومقالات وأحاديث وجدالات رنانة ولكنها لا تفضي إلى أي شيء

بقلم: مالك بن نبي
2167
لا تقترح .. بل انطرح | مرابط
مقالات

لا تقترح .. بل انطرح


نعم من نظر إلى الكون من حوله فرآه مملكة صاغرة خاضعة في قبضة ملك عظيم مهيمن يدبر أمره بحكمة وإحكام لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء كل من فيه له عبيد ولا يكون في ملكه وسلطانه إلا ما يريد سكنت نفسه واطمأن قلبه وهنأ عيشه واستعذب مرارة الحياة وتذوق الحياة بمذاق عجيب لا يعرفه إلا من جربه!!

بقلم: د. جمال الباشا
738