علمانية الحكم الجزء الثاني

علمانية الحكم الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: د سفر عبد الرحمن الحوالي

2228 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ثانيًا: نظرية العقد الاجتماعي:

 

كانت الفلسفة المدرسية -أشهر المذاهب الفلسفية في القرون الوسطى- تقدس فلسفة أرسطو (322 ق.م) وأفلاطون والتراث الإغريقي جملة -رغم الوثنية المشبه بها هذا التراث- وكان مذهب أرسطو أن الإنسان حيوان اجتماعي (1) أو كما تعبر المصادر العربية "مدني بطبعه" أي أن الحالة الاجتماعية للإنسان مقترنة بوجوده منذ القدم، وكانت هذه النظرية من المسلمات التي لا تحتاج إلى دليل.

 

ولكن أحد الباحثين الاجتماعيين الأوائل، وهو هوبز، خالف -وربما عن غير قصد- هذه الفكرة حيث اعتقد أن الإنسان لم يكن في الأصل إلا ذئبا على أخيه الإنسان -على حد تعبيره- وأن الحالة الفطرية أو الطبيعية كانت حربا لا هوادة فيها بين أفراد النوع الإنساني ولذلك احتاج الناس إلى عقد يتنازل بواسطته بعضهم لبعض عن شيء من الحقوق في سبيل أمن وسلامة الجميع. ولما كانت طبيعة الإنسان كما يراها هوبز هي الشر دائمًا استلزم الأمر وجود قوة نفوذها أعلى من العقد تكون مهمتها تنفيذ العقد إجباريا على الأفراد هذه القوة هي الدولة أو الحكومة (2).

 

وبغض النظر عن النتيجة الخاطئة التي وصل إليها هوبز وهي تبرير الطغيان بحجة تنفيذ العقد بالقوة فإن فكرة العقد ذاتها حظيت بعناية الباحثين من بعده (3) وتلا هوبر جون لوك (1704) الذي اتفق معه في وجود عقد اجتماعي بين الدولة والأفراد إلا أنه خالفه في كون سلطة الحكومة المشرفة على تنفيذ العقد مطلقة فهو يرى أن السلطة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن سحب السلطة منها بسحب الثقة فيها (4)

 

وأخيرًا اكتملت الفكرة على يد جان جاك روسو (1778) مع فارق أساسي بينه وبين هوبز، ذلك أن روسو يرى أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الفترة الذهبية من تاريخه ولكن الإنسان بفعل الأطماع وبتأثير الأديان تجرد من النقاء الطبيعي وانتقل إلى حالة من الفوضوية اقتضت وجود عقد اجتماعي لتنظيم حياة الناس ومحاولة العودة بهم إلى الحالة الطبيعية (5)

 

والملاحظ على النظرية بشكل عام هو إغفالها لدور الدين سواء فيما هو كائن أو فيما ينبغي أن يكون إلى درجة أن رسو لا يكتفي بإهمال الأثر الديني في توجيه المجتمع بل يعد الدين الإلهي عاملا من العوامل التي تعوق الرجوع إلى الحالة الطبيعية السوية.

 

وحين يطالب روسو بفصل السياسة عن الدين فإنه يتهم الأديان بأنها هي التي سببت هذا الفصل حيث نجد ه يقول: إن الشعوب القديمة كانت تعبد الملوك وكان لكل دولة ملكها وإلهها في الوقت نفسه، فكانت السياسة والدين شيئًا واحدا ولكن الأديان ومن بينها المسيحية فصلت بين العالم المادي والعالم الروحي فهي تتعلق بالعالم الروحي ولا تشرع للمجتمع السياسي فلماذا لا يكون لهذا المجتمع دين سياسي خاص؟

 

ونظرًا لتهجم روسو على الدين ومطالبته بعزله عن واقع الحياة وصفه بعض الباحثين الغربيين بأن مؤلفاته كانت إعلانا صارخا لحرب ضد المجتمع وضد الله (6) ومن العوامل المشجعة التي دفعت هذه النظرية إلى الأمام قيام الثورة الفرنسية على وحي من مبادئها وآراء فلاسفتها -لا سيما روسو- إذ يعد كتابه الذي يحمل اسم النظرية إنجيل الثورة الفرنسية.

 

وأوحت نظرية العقد الاجتماعي إلى الناس بفكرة جديدة، هي "الوطنية أو القومية" إذ أن العقد إنما يكون بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه وتتفق مصالحع مع مصالح الفرد ورغباته، لا مع مجتمع آخر بعيد مهما كانت قوة الصلة الدينية به، فهي تهدف إلى نزع ولاء الفرد من الكنيسة وإعطائه للدولة وإلى قطع الروابط الدينية ليحل محلها روابط وطنية كما أنها جعلت القيمة العليا للمصلحة المادية الدنيوية التي بسببها تم إبرام العقد وليست للملكوت الذي تبشر به المسيحية أو المثل أو الفضائل التي كان المجتمع يعدها أغلى ما يملك. لذلك فليس بعيدا ما قاله ويلز من أن روسو كان يلتمس المعاذير لنقض العقد الاجتماعي وهدمه أكثر مما يؤكد ضرورته (7)

 

ثالثًا: نظرية الحق الإلهي:

 

في المرحلة السابقة للإسلام كان الملوك يستعبدون الناس لأنفسهم زاعمين أن لهم سلالة عرقية خاصة أسمى من العنصر البشري المشترك وغلا بعض الطواغيت فادعى أنه إله أو من نسل الآلهة كما فعل أباطرة الروم، ولم يكن ليدور في خلد أي منهم أن للأمة عليه واجبات وحقوقًا وأن الكرسي والمنصب تكليف لا تشريف، بل كانوا يرون أن ما تقدمه لهم الأمم من مراسم الخدمة والولاء والخضوع المذل والتضحية بالنفس والنفيس لأجلهم ليس إلا واجبًا مقدسًا يقومون به تجاه العرش المحروس.

 

جاء الإسلام فنسف هذه الفكرة من أساسها ورد العبودية كلها لله وحده وفرض على الحكام تبعات ومسؤوليات تناسب مركزهم في الأمة، فرأى الناس في معظم أنحاء المعمورة الولاة المسلمين يرعون مصالحهم وينهضون بأعباء المسؤولية كاملة في الوقت الذي لا يتميزون فيه عن الأمة بكبير فارق. ولكن الأقطار التي لم يشملها نور الإسلام -لاسيما في أوروبا الهمجية- ظلت ترزح تحت نير الطغاة وظل الفرد الأوروبي عدة قرون يعبد الهين من البشر: الإمبراطور والبابا. الأول يدعي أن له الحق في حكم الناس وفق مشيئته ويخضعهم لهواه. والثاني يبارك خطواته ويلزم الشعب بإطاعته لأن ذلك يأمر به الله وتمليه السماء.

 

وظلت عروش أوروبا تتوارثها سلالات وعائلات معينة لا يجرؤ أحد أن ينافسهم ولا يستسيغ إنسان أن يسأل لماذا يحكم هؤلاء وبماذا يحكمون؟ فالرعاع كلهم مقتنعون تماما بأنهم يستمدون حكمهم من الله مباشرة.

 

وظهر فلاسفة وباحثون برروا هذا الاستبداد والعبودية وفلسفوها في قوالب متعددة، فجاء هوبز ليتملق ملوك عصره مطالبا بأن لهم الحق في سلطة مطلقة يستطيعون بها تنفيد العقد الموهوم. وكذلك كان جان بودان (1596) وجروتس (1645) من المدافعين عن الحكم المطلق "ويعلل بودان ذلك بأن الحكم غير المطلق معرض للثورات والفتن وصراع الأحزاب وينكر نظرية العقد الاجتماعي لأنها تمنح الفرد الشعور بالمشاركة في تكوين الدولة.

 

أما جروتس فيدافع عن الاستبدادية بذريعة أنها أفضل السبل لتطبيق القانون الطبيعي وأن الناس إذ قط ارتضوا هذا النوع من الحكم فليس من حقهم أبدًا أن يتراجعوا عنه (8) وفي القرن التاسع عشر تطورت هذه الفكرات إلى فكرة فلسفة معقدة على يد هيجل (1900) ومدرسته التالية التي تمثل حلقة وصل بين العقائد المسيحية وبين النظريات الفلسفية المجردة، ولعل أعظم ما حققه أساتذتها هو تحويل الدين إلى فكر ومنطق.

 

فتحول الله إلى مطلق والوحي إلى معرفة مطلقة والمسيح إلى توسط والشريعة إلى قانون مجرد أي أن العقيدة هي الحياة نفسها والعقائد رموز تفكك إلى حقائق ويرى هيجل أن التاريخ هو عباة عن تطور منطقي قائم على أساس مفهوم التقدم نحو النظام والمعقولية والحرية. والدولة ليست مصطنعة عن طريق عقد اجتماعي أو غيره بل هي كائن طبيعي له وجوده المتميز إذ هي تجسيد للحرية التي يرنو إليها التطور التاريخي.

 

والتاريخ -في نظرة- ظل يتطور وفق قانون الجدلية حتى بلغ القمة في الدولة الروسية -التي كانت معاصرة لهيجل- ففيها تجسد المطلق والحرية والألوهية (9) وعلى الرغم من النقد العاصف الذي تعرضت له النظرية من قبل أنصار النظريات الأخرى بسبب تقديسها الزائف للاستبداد -فقد كان لها أثر بالغ لاسيما في نفوس الألمان الذين ظلوا على استعداد للانقياد لحكومة دكتاتورية يرون فيها تجسيدًا لأعلى مثلهم القومية فكان بسمارك في القرن الماضي وهتلر في القرن العشرين.

 

واشتق منها ماكس فيبر نظريته في الكاريسما ومعناها -عنده- القوة الخاصة التي منحتها الطبيعة للقلة المختارة للدلالة على الزعماء الذين يقوم نفوذهم على اعتقاد عند الناس بأن روحهم من روح الله "مثل يوليوس قيصر ونابليون" وهذه النظرية -رغم أن عداوتها للدين ليست كسابقتها- ألحقت بالدين ضررا بالغا بتمسحها به وانتسابها اللفظي إليه وادعاء أن طواغيتها يستمدون سلطتهم من تفويض الله لهم، إذ نجم عن ذلك رد فعل عنيف ضد الدين من قبل من يسمون دعاة الحرية الذين وجدوا في هذه الدعوى فرصة لمهاجمة الأديان متذرعين بأنها تبارك الطغيان وتقدس الدكتاتورية.

 

والحق الذي لا مرية فيه أن الحكام الذين مارسوا الطغيان متسترين بهذه الدعوى هم أبعد ما يكون عن تنفيذ القانون الإلهي "أي الحكم بما أنزل الله" فوق أنهم لا يستطيعون إقامة الدليل على أن الله منحهم الحق في التسلط على الأمم وإذلال الشعوب باسمه. وواقع التاريخ يؤكد أن العدل الرباني والطغيان البشري نقيضان لا يجتمعان وان الذين كانوا يحكمون بما أنزل الله فعلا ويستندون في سلطتهم إلى الوحي الإلهي حقيقة هم أعظم حكام البشرية عدلا وإنصافا وأشدهم رحمة وتواضعًا، وأنهم بفضل ذلك قد حققوا في دنيا الواقع ما كان الفلاسفة يحلمون به في الخيال.

 

وها هي ذي سيرة الأنبياء الذين حكموا بني إسرائيل وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومن حذا حذوهم تظهر فيها الصورة المشرقة والنموذج الرفيع للحكم الأمثل. وعكس ذلك تماما كان الحكام الطغاة الذين يتبجحون بنظرية الحق الإلهي فهم يمثلون أسوأ النماذج للجبروت والاستبداد. وهكذا كلما كان الحاكم أقرب إلى الحكم بما أنزل الله كان حكمه أقرب إلى النزاهة والاستقامة وحالت خشية الله بينه وبين أي لون من ألوان الطغيان، وكلما ابتعد عن الحكم بما أنزل الله سقط في مهاوي الظلم وتلطخت صفحة حكمه بصنوف الاستبداد وأنواع الجور.
 
إذن فليست نظرية الحق الإلهي على حق فيما تضفيه على حكامها من القداسة المصطنعة والعمل حسب تفويض الله وإرادته، وكذلك ليس خصومها على حق في دعوى أن الدين يحبذ الطغيان ويشجع على الاستبداد.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. تاريخ علم الاجتماع: جاستون بوتول: 9
  2. انظر سلسلة تراث الإنسانية "اللواياثان": ج1 ص 257
  3. انظر تاريخ النظرية السياسية: 103
  4. انظر مدخل إلى علم السياسة: 30
  5. انظر سلسلة تراث الإنسانية: 1/577
  6. انظر سلسلة تراث الإنسانية: 1/586
  7. معالم تاريخ الإنسانية: 4/118
  8. الفكر السياسي قبل الأمير وبعده "ملحق بكتاب الأمير": 254-255
  9. انظر الفكر السياسي: 281

 

المصدر:

  1. د. سفر عبد الرحمن الحوالي، العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، ص209
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #سفر-الحوالي
اقرأ أيضا
المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج3 | مرابط
تفريغات العالمانية

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج3


ومن الأهداف التي حققها الاستعمار القضاء على التعليم الإسلامي وإيجاد معاهد بديلة عنه تدرس الفكر الأوروبي والفكر العلماني الجديد الذي صار في أوروبا وقصة هذا الموضوع أيضا طويلة لقد وضعوا خططا لذلك مثل: خطة دلوب مثلا في مصر وغيرها وأتوا بجامعات مثل: الجامعة الأمريكية في لبنان وغيرها وأرادوا تربية أكبر عدد من أجيال المسلمين على هذه المبادئ وعلى هذه الأفكار الباطلة

بقلم: عبد الرحيم السلمي
631
في التحذير من فتن إبليس ومكايده | مرابط
اقتباسات وقطوف

في التحذير من فتن إبليس ومكايده


مقتطف لابن الجوزي من كتاب تلبيس إبليس يحذر فيه أهل الإسلام من مكائد إبليس وفتنته ويشير إلى طبيعة الإنسان منذ خلقه حيث ركب فيه الهوى والشهوة وبيده أن يختار طريق الهدى أو طريق الضلال بيده أن يجلب ما فيه نفعه وصلاحه أو ينساق وراء شهواته وحبائل إبليس

بقلم: ابن الجوزي
1644
العلاج بالطاقة وقانون الجذب | مرابط
مقالات

العلاج بالطاقة وقانون الجذب


المعالجون بالطاقة الكونية وقانون الجذب والتأمل واليوجا وقوانين الاستحقاق هؤلاء لصوص آخرة يسرقون آخرتك ويدعونك لعبادة العجل الذهبي.. فهم يغرونك ببريق الدنيا ولذة الدنيا وتضخيم هوى نفسك ويسلبون في المقابل آخرتك يجعلون منك إلها صغيرا تغير الأقدار وتصنع الاستحقاق.

بقلم: د. هيثم طلعت
664
المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه


قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي وكذلك يجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله وتجترئ عليه نفسه فتتأسد عليه وتصعب عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبي

بقلم: ابن القيم
911
من آداب المناظرة | مرابط
مناظرات

من آداب المناظرة


ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب وأنت بالحقيقة مغلوب فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة

بقلم: ابن حزم
268
ثغرات تسدها المرأة المسلمة: البيت والزوجية | مرابط
تفريغات المرأة

ثغرات تسدها المرأة المسلمة: البيت والزوجية


أيتها الأخت المسلمة! في ثغرة الزوجية وبيت الدعوة بيتك يجب ألا يعرف الخراب لأنه يتكون معه أسباب الحماية من الحب والرضا بينك وبين الزوج وهذه ثغرة كل زوجة في القيام بحق زوجها وينبغي أن يكون الزوج أحب الناس إلى زوجته وأن يكون البيت قائما على الالتزام بالإسلام وتربية الأولاد التربية الصالحة والدعوة إلى الله

بقلم: محمد صالح المنجد
400