قضايا يدور حولها الجدل: الحرية

قضايا يدور حولها الجدل: الحرية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

1897 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن من أعذب الكلمات التي يسمعها الإنسان: كلمة “الحرية“، كم تشعر أن حروفها تنبض بالحياة، والسّعة، والإشراق، والانطلاق. وكم يكره الإنسان أن يكون مقيد الحرية من إنسان مثله يأكل ويشرب ويقضي حاجته، فما الذي يميزه حتى يتحكم في حريات الناس لأجل أنه أوتي منصبًا أو مُلْكًا؟ وما الفرق بيننا وبينه حتى يكمم فم من شاء، ويقذف في السجن من شاء؟
 
إن تسلط الإنسان على الإنسان قصة قديمة تكررت كثيرًا على مر القرون والأزمان، وفي مختلف البلدان، وحين بعث الله الرسل لهذه المجتمعات البشرية كانت رسالتهم أفضل وسيلة للتخلص من تسلط الإنسان على الإنسان، إلى خضوع الجميع للواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يولد.
 

معاني الحرية في رسالة الرسل

بل إن رسالة الرسل كان فيها من معاني الحرية ما هو أكثر من ذلك، وهي تخليص الإنسان من معاني العبودية الخفية التي لا يشعر بها، كالخضوع للمال وعبادته، أو للشهوة وعبادتها.

فقد صحّ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».. والدعوات إلى الحرية حين لا تراعي هذا المعنى فهي في الحقيقة ليست دعوات إلى حُرّية سامِية شريفة، بل هي حرية سطحية، وفي باطنها عبودية رهيبة لمن لا يستحق العبودية.
 

الجدال حول مصطلح الحرية

إن النقاش حول الحرية، والجدل الدائر في موضوعها يحتاج إلى تفصيل في الأحوال قبل إطلاق الأحكام العامة التي يضيع معها الحق؛ لأن مصطلح الحرية بات محملًا بأعباء فكرية وتاريخية ثقيلة، ولم يعد ذلك اللفظ الساذج الحر.
 
وأخطر شيء على الأفهام استعمال المصطلحات الـمُحمّلة بالأعباء التاريخية والخلافات الفكرية دون بيان يجلي حدودها ويكشف عن معاني الصواب فيها.
 
وقد افترق الناس أمام مصطلح الحرية إلى طوائف شتى، فمنهم من غلّب جانب الاستنكار والتشكيك في نظرته إلى هذا المصطلح، فتجده يفر من استعماله، بل وقد ينكر بعض معانيه الصحيحة ويعارضها؛ حتى ترى أنه في خطاباته يرسخ -باسم الإسلام- بعض معاني الاستعباد والذل للبشر من ذوي السلطة والنفوذ مما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء خطر على الإسلام.
 
وطائفة أخرى لم تكن حرة في استعمالها لمصطلح الحرية، فهي مأسورة ضمن نماذج تاريخية أو تفسيرية معينة للحرية لا تقبل الخلاف فيها ولا النزاع، بينما إذا نظرت إلى حقيقة هذه النماذج وجدتها تدعو إلى نوع من الحرية يفسد الإنسان ويطيح بكرامته وينزع عنه كل ما يميزه عن الحيوانات، فتحت هذه النماذج يتم الدفاع عن الشذوذ الجنسي، وعن ممارسة الفاحشة مع الكلاب وغيرها، كما يُغلّب فيها جانب الأنانية بصورة مقيتة، فأنت ترى أنه لا حقوق ضمن هذه النماذج للأجنة التي تزهق أرواحها بالملايين في مقابل حرية حامل الجنين في ممارسة شهواتها كما تشاء.
 

الموقف من قضية الحرية

والموقف العدل من قضية الحرية يكون في التوسط بين موقفي الطائفتين المذكورتين:
 
فيتم الجمع بين تبني لفظ الحرية ونصرته والدعوة إليه والدفاع عنه، وبين التزام حدود الله تعالى التي فرضها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون العبارة الصحيحة لحدود الحرية هي (حريتي تنتهي عند حدود الله).
ومن جهة أخرى فلا بد من التفريق في مساحة الحرية في الإسلام بين ما يعتقده الشخص في نفسه وبين ما يعلن به بين الناس، فالإسلام يقبل بوجود الكفار في أرضه، مع بقائهم على كفرهم بشروط، منها: عدم إعلان الطعن في الدين وعدم المجاهرة بالكفر.
 
ويحصل اللبس -أو التلبيس- في هذه النقطة حين لا يتم التفريق بين المقامين، فتجد من يستدل بتعايش الكفار مع المسلمين في التاريخ الإسلامي على تشريع قوانين تجعلهم كالمسلمين في باب الدعوة إلى دينهم، والتشكيك في الإسلام، وهذا غلط؛ إذ إنّ اعتقادهم في أنفسهم وفي بيئتهم المغلقة شيء، وإعلانهم ونشرهم لما يعتقدون -مما أنكره الإسلام- شيء آخر.
 
وقريب من هذا: الخلط بين الحرية التي يتيحها الإسلام في السؤال عما يُشكل على الإنسان من قضايا الدين، وبين بث هذه الإشكالات في الناس وإفساد صفاء عقيدتهم ويقينهم.
 
فالصورة الأولى فيها مساحة كبيرة من الحرية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. [البقرة:٢٦٠]{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [هود:٩٤]
 
فالواجب ألا يُوصد باب السؤال والنقاش والحوار أمام المستشكلين ومن عندهم شك أو ريب، وأما أن ينتقل هذا الشك والريب إلى صورة الإعلان والتشكيك، فهذا من المنكر الذي يجب إنكاره شرعًا.
 

هل الحرية في الإسلام تعني إباحة الباطل؟

وبسبب تأثير ثقافات غير إسلامية فقد ظن البعض أن الحرية في الإسلام تعني ترك الكُفر والباطل ينتشران دون منعٍ أو مجاهدة، وفات هؤلاء مواقف عديدة يحكيها الله في القرآن ترد قولهم هذا، فمثلًا:
 
1- إبراهيم عليه السلام كسر الأصنام في غير حضرة قومه ومن غير مشورتهم.
 
2- موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي صنعوه من ذهبهم وحُليّهم، أخذه فحرقه ورماه في البحر {وَٱنظُرْ إِلَى إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفًا}[طـه:٩٧]
 
3- والرسول محمدصلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم فتحها كان حولها ثلاثمائة وستون صنمًا، فلم ينتظر الإذن من قريش لتحطيمها، فكسرها وهو يقول: {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١].

 


 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، كامل الصورة، ص153

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحرية #كامل-الصورة
اقرأ أيضا
العلمانية الجزء الأول | مرابط
العالمانية

العلمانية الجزء الأول


مدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر

بقلم: الندوة العالمية للشباب الإسلامي
2045
يا بلال قم فناد بالصلاة | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا بلال قم فناد بالصلاة


فائدة منتقاة من فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني بخصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فناد بالصلاة فيدور الحديث هنا على حجية القيام وعلى المقصود بالمناداة والمراد منها ويعرض لنا آراء السلف في ذلك

بقلم: ابن حجر العسقلاني
665
من صور إنكار الذات في حياة الصديق | مرابط
تفريغات

من صور إنكار الذات في حياة الصديق


يقف بنا الدكتور راغب السرجاني في إحدى محاضراته الماتعة على بعض المواقف من سيرة الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه والتي تعلمنا المعنى الحقيقي للإيثار وإنكار الذات في حياة هذا الصحابي الجليل حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة

بقلم: د. راغب السرجاني
344
الروح في اليقين والهم في الشك | مرابط
مقالات

الروح في اليقين والهم في الشك


الزهد في الدنيا هو طريق راحة قلبك من الهم فإنها هم دائم ما دامت. والزهد فيها يرجع إلى ثلاثة أصول كلها قلبي المنشأ ليس فيها ما هو جارحي! وكلها ينشأ من عبادة اليقين بالله وحده وهي قلبية.

بقلم: خالد بهاء الدين
438
العلمانية الجزء الثاني | مرابط
العالمانية

العلمانية الجزء الثاني


مدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر

بقلم: الندوة العالمية للشباب الإسلامي
2146
العجمة وظهور البدع | مرابط
تفريغات

العجمة وظهور البدع


ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفهم مسائل الدين أصولا وفروعا أن يرجع إلى أقوال أهل العربية من أهل العلم والفضل وصدر ذلك هم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في المدينة ومكة وكذلك أيضا الأجلة من فقهاء التابعين في المدينة ومكة فينبغي له أن يعرف أقوالهم وأن يتبصر بها ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل أصحابه لهذا الباب وكذلك أيضا إنما جاء تفضيل المدينة وأهلها وفضل سكناها باعتبار أن البدع فيها أقل من غيرها.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
561