قضايا يدور حولها الجدل: الحرية

قضايا يدور حولها الجدل: الحرية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

1811 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن من أعذب الكلمات التي يسمعها الإنسان: كلمة “الحرية“، كم تشعر أن حروفها تنبض بالحياة، والسّعة، والإشراق، والانطلاق. وكم يكره الإنسان أن يكون مقيد الحرية من إنسان مثله يأكل ويشرب ويقضي حاجته، فما الذي يميزه حتى يتحكم في حريات الناس لأجل أنه أوتي منصبًا أو مُلْكًا؟ وما الفرق بيننا وبينه حتى يكمم فم من شاء، ويقذف في السجن من شاء؟
 
إن تسلط الإنسان على الإنسان قصة قديمة تكررت كثيرًا على مر القرون والأزمان، وفي مختلف البلدان، وحين بعث الله الرسل لهذه المجتمعات البشرية كانت رسالتهم أفضل وسيلة للتخلص من تسلط الإنسان على الإنسان، إلى خضوع الجميع للواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يولد.
 

معاني الحرية في رسالة الرسل

بل إن رسالة الرسل كان فيها من معاني الحرية ما هو أكثر من ذلك، وهي تخليص الإنسان من معاني العبودية الخفية التي لا يشعر بها، كالخضوع للمال وعبادته، أو للشهوة وعبادتها.

فقد صحّ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».. والدعوات إلى الحرية حين لا تراعي هذا المعنى فهي في الحقيقة ليست دعوات إلى حُرّية سامِية شريفة، بل هي حرية سطحية، وفي باطنها عبودية رهيبة لمن لا يستحق العبودية.
 

الجدال حول مصطلح الحرية

إن النقاش حول الحرية، والجدل الدائر في موضوعها يحتاج إلى تفصيل في الأحوال قبل إطلاق الأحكام العامة التي يضيع معها الحق؛ لأن مصطلح الحرية بات محملًا بأعباء فكرية وتاريخية ثقيلة، ولم يعد ذلك اللفظ الساذج الحر.
 
وأخطر شيء على الأفهام استعمال المصطلحات الـمُحمّلة بالأعباء التاريخية والخلافات الفكرية دون بيان يجلي حدودها ويكشف عن معاني الصواب فيها.
 
وقد افترق الناس أمام مصطلح الحرية إلى طوائف شتى، فمنهم من غلّب جانب الاستنكار والتشكيك في نظرته إلى هذا المصطلح، فتجده يفر من استعماله، بل وقد ينكر بعض معانيه الصحيحة ويعارضها؛ حتى ترى أنه في خطاباته يرسخ -باسم الإسلام- بعض معاني الاستعباد والذل للبشر من ذوي السلطة والنفوذ مما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء خطر على الإسلام.
 
وطائفة أخرى لم تكن حرة في استعمالها لمصطلح الحرية، فهي مأسورة ضمن نماذج تاريخية أو تفسيرية معينة للحرية لا تقبل الخلاف فيها ولا النزاع، بينما إذا نظرت إلى حقيقة هذه النماذج وجدتها تدعو إلى نوع من الحرية يفسد الإنسان ويطيح بكرامته وينزع عنه كل ما يميزه عن الحيوانات، فتحت هذه النماذج يتم الدفاع عن الشذوذ الجنسي، وعن ممارسة الفاحشة مع الكلاب وغيرها، كما يُغلّب فيها جانب الأنانية بصورة مقيتة، فأنت ترى أنه لا حقوق ضمن هذه النماذج للأجنة التي تزهق أرواحها بالملايين في مقابل حرية حامل الجنين في ممارسة شهواتها كما تشاء.
 

الموقف من قضية الحرية

والموقف العدل من قضية الحرية يكون في التوسط بين موقفي الطائفتين المذكورتين:
 
فيتم الجمع بين تبني لفظ الحرية ونصرته والدعوة إليه والدفاع عنه، وبين التزام حدود الله تعالى التي فرضها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون العبارة الصحيحة لحدود الحرية هي (حريتي تنتهي عند حدود الله).
ومن جهة أخرى فلا بد من التفريق في مساحة الحرية في الإسلام بين ما يعتقده الشخص في نفسه وبين ما يعلن به بين الناس، فالإسلام يقبل بوجود الكفار في أرضه، مع بقائهم على كفرهم بشروط، منها: عدم إعلان الطعن في الدين وعدم المجاهرة بالكفر.
 
ويحصل اللبس -أو التلبيس- في هذه النقطة حين لا يتم التفريق بين المقامين، فتجد من يستدل بتعايش الكفار مع المسلمين في التاريخ الإسلامي على تشريع قوانين تجعلهم كالمسلمين في باب الدعوة إلى دينهم، والتشكيك في الإسلام، وهذا غلط؛ إذ إنّ اعتقادهم في أنفسهم وفي بيئتهم المغلقة شيء، وإعلانهم ونشرهم لما يعتقدون -مما أنكره الإسلام- شيء آخر.
 
وقريب من هذا: الخلط بين الحرية التي يتيحها الإسلام في السؤال عما يُشكل على الإنسان من قضايا الدين، وبين بث هذه الإشكالات في الناس وإفساد صفاء عقيدتهم ويقينهم.
 
فالصورة الأولى فيها مساحة كبيرة من الحرية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. [البقرة:٢٦٠]{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} [هود:٩٤]
 
فالواجب ألا يُوصد باب السؤال والنقاش والحوار أمام المستشكلين ومن عندهم شك أو ريب، وأما أن ينتقل هذا الشك والريب إلى صورة الإعلان والتشكيك، فهذا من المنكر الذي يجب إنكاره شرعًا.
 

هل الحرية في الإسلام تعني إباحة الباطل؟

وبسبب تأثير ثقافات غير إسلامية فقد ظن البعض أن الحرية في الإسلام تعني ترك الكُفر والباطل ينتشران دون منعٍ أو مجاهدة، وفات هؤلاء مواقف عديدة يحكيها الله في القرآن ترد قولهم هذا، فمثلًا:
 
1- إبراهيم عليه السلام كسر الأصنام في غير حضرة قومه ومن غير مشورتهم.
 
2- موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم يعبدون العجل الذي صنعوه من ذهبهم وحُليّهم، أخذه فحرقه ورماه في البحر {وَٱنظُرْ إِلَى إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفًا}[طـه:٩٧]
 
3- والرسول محمدصلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم فتحها كان حولها ثلاثمائة وستون صنمًا، فلم ينتظر الإذن من قريش لتحطيمها، فكسرها وهو يقول: {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١].

 


 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، كامل الصورة، ص153

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحرية #كامل-الصورة
اقرأ أيضا
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
603
فضل علم النحو | مرابط
تفريغات لسانيات

فضل علم النحو


وعلم النحو علم شريف عظيم ولا يمكن لطالب علم أن يطلب العلم من دونه كأن يطلب العلم والنحو ولا يجد في طلبه لأنه من علوم الآلة فهذا لا بد أن يعض عليه بالنواجذ حتى وإن انتهى مثلا من الآجرومية وما بعدها من تكملة الآجرومية لأن الأهم هو أن يستقيم لسانه وأن يعقل عن الله مراده وكذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقلم: محمد حسن عبد الغفار
427
فصل ما بيننا وبين المبتدعة | مرابط
اقتباسات وقطوف

فصل ما بيننا وبين المبتدعة


واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي

بقلم: أبو القاسم الأصبهاني
2493
الأدب مع الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأدب مع الله


وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به وهنا يذكر لنا ابن قيم الجوزية رحمه الله نماذج من خطاب الأنبياء والرسل مع الله تعالى وكيف تتجلى فيها معالم وملامح الأدب الكبير حتى في أدق التفاصيل

بقلم: ابن قيم الجوزية
2137
القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن


إذا أردت أن تشهد العبقرية الاجتماعية للتشريع الإسلامي عليك أن تتوقف أمام أزمة الخمر في المجتمع العربي قبل وبعد الإسلام وترى كيف تم التدرج في تحريمها بداية من العامل النفسي وصولا إلى التحريم الصارم ثم تقارن كل هذا بمحاولة أمريكا في القرن الماضي للتغلب على أزمة الخمر في مجتمعها وترصد الفوارق الشاسعة بين الطريقتين وهذا بالضبط ما يقدمه المقال

بقلم: مالك بن نبي
2089
صديقات السوء | مرابط
تفريغات المرأة

صديقات السوء


عجبا لك يا ابنة الإسلام كيف تستخدمين صلة العلم التي هي أشرف الصلات وأكرمها في المدارس والكليات لتبادل الأرقام والأفلام كيف تجرأت على القلم الذي هو أفضل أداة للخير وأعظم وسيلة للفضيلة وواسطة للآداب والكمال فخططت به الأرقام ورسائل الحب والغرام ونشر الحرام ألم تسمعي للحبيب صلى الله عليه وسلم يقول ويل لمن كان مفتاحا للشر مغلاقا للخير

بقلم: إبراهيم الدويش
338