قرأت عند بعض الأفاضل كلامًا حول قوة حفظ الإمام البخاري؛ ردًا على مقطع الشاب الذي لم يستوعب هذه القدرة..وذكروا كلامًا عظيمًا عن قدرات العلماء في الحفظ والعلم والدعوة.. لكن الذي خطر في بالي الكتابة عنه، وأغراني بالتفكر فيه هو:
لماذا فعل البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ذلك؟!
لماذا وظفوا كل طاقاتهم في هكذا حياة؟!
ما الذي يدفع إنسان لبذل نفسه في الحفظ والارتحال بين البلاد مع كل ما فيه من مشقة وقتئذ بطبيعة الحال؟!
لماذا يتركون التنعم بالدنيا ولذاتها ومُتعها في سبيل ذلك، مع ما فيهم من ذكاء وتوقد كان من الممكن أن يبلغوا به المراتب العظيمة؟!
البخاري مات وهو مرتحل، ومسلم مات وهو يبحث لأيام متواصلة في المكتبة عن حديث، والبويطي وابن تيمية ماتا في السجن، وغيرهم كثير.. لماذا هذه النهايات المؤلمة لعظماء كهؤلاء؟!
ما الذي يضطر علي بن المديني حين يُلحون عليه في السؤال عن حال أبيه في الرواية، مع حبه له، فيقول: "الحق أقول، أبي ضعيف".. أو أبو داود صاحب السنن حين يُسأل عن الرواية عن ابنه، مع ما هو معلوم بالضرورة من منزلة الابن للوالد، فيقول: "ابني كذاب".. أو زيد بن أبي أُنيسة حين سُئل عن أخيه فقال: "لا تأخذوا عن أخي، أخي كذاب"؟!
هؤلاء لم يفهموا قيمة الدين كما نفهمها، ولم ينظروا للدين على أنه وسيلة لإشباع لذة ما، أي لذة، ولو كانت لذة التمكين أو العِزة أو التحضر، وهي ليست مطعنًا أو نقيصةً قطعًا!
لكن قيمة الدين في دواخلهم كانت أبعد من ذلك وأعظم، فاسترخصوا الدنيا في حين رقعنا بها ديننا.. وباعوا أنفسهم للآخرة في حين لم تكفنا في أعماق نفوسنا.. ولم يبالوا في سبيل ذلك بأي خسارة في الناس في حين جعلنا صلتنا بالناس مبنية على حسابات مع وضد ومن ولمَ!
فبارك الله في أعمارهم، وفعلوا ما يصعب تصوُّره بتصوراتنا المادية، حتى بلغت قدراتهم وأفعالهم وأقوالهم وكتبهم مبلغًا من النفع والأثر لم يكن ليخطر لهم أنفسهم ببال! هؤلاء حطوا رحالهم في الجنة، بإذن الله، ونحن مساكين كل همنا أن نُخضع سيرهم ومسيرهم لأوهامنا في الحياة!