ليلة في بيت النبي الجزء الرابع

ليلة في بيت النبي الجزء الرابع | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

630 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

خبر المرأة الثامنة

وقالت الثامنة: (زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب). وهي تمدحه (مس أرنب) أي: ناعم البشرة، ناعم الملمس، كجلد الأرنب، رفيق رقيق، (والريح ريح زرنب)، الزرنب: نبات طيب الرائحة، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة، ومن الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع..

والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـعائشة: (بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)، فأول ما يدخل البيت يستاك، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة.

 

خبر المرأة التاسعة

وقالت التاسعة: (زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد)، وهي أيضًا تمدحه..

(رفيع العماد) أي: طويل، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق، فهذا طويل وهذا طويل، لكن شتان بين طويل وطويل، فهذا رجل رفيع العماد، طويل، ذو هيئة حسنة، (طويل النجاد)، النجاد: هو جراب السيف، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلًا، وهذا أمر يمتدح به.

(عظيم الرماد): إشارة إلى كرمه، أي: لكثرة ما يشوي للضيوف من اللحم ويطبخ لهم صار عنده رماد كثير، فهي تمدحه بالكرم، وهذه الصفة من الصفات التي كان يحرص العرب عليها كثيرًا، والسخاء يغطي كل عيب، كما أن البخل لا يظهر حسنة، فالبخيل ليس له حسنة، والكريم ليس له عيب.

وهناك آيات في ذم البخل؛ كقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، وفي القراءة المتواترة الأخرى: (ويأمرون الناس بالبَخَل)، والرسول عليه الصلاة والسلام تكلم في أحاديث شتى عن ذم البخلاء، وامتلأت الكتب بالإزراء على هؤلاء البخلاء، وصارت سيرتهم على كل لسان سيئة جدًا، بخلاف الكرم، فمثلًا: حاتم الطائي، يضرب به المثل في الكرم، فيقولون مثلًا: هذا كرم حاتمي، هذا حاتم الطائي، وقد رأى ابنه مرة يضرب كلبة له، فقال له: (يا بني! لا تضربها، فإن لها علي يدًا، إنها تدل الضيفان عليَّ)؛ لأن الضيف إما أن يرى النار أو يسمع نباح الكلب فيأتي.

وهذا بخلاف البخلاء.. يذكر أن رجلين كانا يمشيان، وكان هناك بخيل يسبح، فأشرف على الغرق، فنادى: أدركوني، فقال أحد الرجلين: هات يدك، فلم يعطها له، وكان الثاني أذكاهما، فقال له: خذ يدي، ولم يقل: هات يدك؛ لأن الإعطاء ليس مذهبه، حتى لو يؤدي به ذلك إلى الموت؛ لأنه غير معتاد على كلمة (هات) أبدًا.

وهناك رجل آخر اسمه أبو نوح، وكان بخيلًا جدًا، فاستضاف عنده رجلًا فاكتوى من شدة الجوع، فأنشد قائلًا:

يجوع ضيف أبي نو ح بكرة وعشيـة

أجاع بطني حـتى وجدت طعم المنية

وجاءني برغيـف قد أدرك الجاهلية

فقمت بالفأس كيما أدق منه شظيـة

يريد أن يقطع لقمة، فلا يستطيع إلا بالفأس..

ثلم الفأس وانصاع مثل سهم الرمية

أي: أن قطعة اللقمة التي خرجت، خرجت كأنها قذيفة.

فشج رأسي ثلاثًا ودق مني ثنية

هذا كله عملته لقمة!! والثنية هي مقدم الأسنان، فهذا رغيف أدرك الجاهلية، أي: مخضرم!! فضيف أبي نوح أكله في الإسلام، فهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، من إنتاج شركة الحديد والصلب!! ومصنوع في أفران الحديد والصلب!!

ورجل آخر يقول: دخلوا على رجل بخيل فتأخر عليهم.. فقال أحدهم:

يا ذاهبًا في بيته جائيًا من غير ما فائدة

جن أضيافك من جوعهم فاقرأ عليهم سورة المائدة

وهناك نوادر كثيرة للبخلاء، تقرؤها مثلًا في البخلاء للجاحظ، أو البخلاء للخطيب البغدادي، أو البخلاء لـابن الجوزي، فالبخل عار وشنار على أهله.

يذكر عن رجل كريم اسمه معن بن زائدة، يضرب به المثل في الكرم، أن أحد الشعراء أراد أن يقابله، وكان معن بن زائدة في بستان، فأبى البواب على الشاعر أن يدخل، فنظر الشاعر فوجد جدول ماء يمر من تحت الجدار إلى داخل البستان، فكتب الشاعر بيت شعر ونقشه على خشبة ووضعه على الماء، فحمله الماء إلى معن بن زائدة الذي كان جالسًا عند الماء، فوجد الخشبة طافية على الماء، فأخذها فقرأها، فأعجب بالبيت جدًا، فطلب الرجل، فقال: أنت الذي كتبت هذا؟ قال: نعم. قال: كيف قلت؟ فأنشد له البيت، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم كان من الغد فأرسل إليه، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم أرسل إليه في اليوم الثالث فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار. وعندما أخذ الشاعر الأربعة ألف دينار الثالثة هرب، فقد ظن أن هذا الرجل مجنون، وأنه سيفيق فيأخذ المال، فهرب من البلد كلها، فأرسل إليه في اليوم الرابع، فقيل له: إنه ولى الأدبار، فقال: (والله لقد أساء الظن، أما والله لو بقي لأعطيته مالي كله مقابل هذا البيت).

فهناك أناس مطبوعون على الكرم، وعندهم سجية العطاء، لا يستريح إلا إذا أعطى، وقيمة الإنسان في العطاء وليست في الأخذ، وانظر إلى هذه الأبيات الجميلة التي تكتب بالذهب.. التي قالها أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان، يقول:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يومـًا كفاه من تعرضه الثنـاء

أبيات في غاية الجمال، وفي غاية الرقة! يقول له: (أأذكر حاجتي) أي: هل أذكر أنني محتاج، أم يكفيني أنك تفهمها، (إذا أثنى عليك المرء يومًا)، يعني أول ما يقابله ويقول له: الله يحفظك، وجزاك الله خيرًا، فعندما يقول له يعطي له المال، فلم يحوجه أن يريق ماء وجهه في السؤال.. يقول له: أنت تريد شيئًا، أو يقول: يا أخي! كن صريحًا، تريد كذا، ليس عندي مانع.. وهكذا.

فلا يحوجه إلى أن يريق ماء وجهه، فهذا الرجل أول ما يسمع الثناء فقط يعرف أنه رجل محتاج، فلا يحوجه إلى السؤال، فيقول له:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يومـًا كفاه من تعرضه الثنـاء

وبهذا التخريج خرج الإمام الكبير العلم سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي، شيخ أحمد بن حنبل وشيخ الشافعي، حديث دعاء الكرب: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش الكريم).

فهذا ثناء، وليس دعاء، فلماذا سموه دعاء الكرب؟ عندما قيل لـسفيان بن عيينة: إن هذا ليس دعاء، بل هو ثناء، قال: نعم، وأنشد هذين البيتين، وقال: إذا كان هذا مخلوق وكفاه الثناء فكيف بالخالق عز وجل.

فعندما تقول: لا إله إلا اله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم.. هذا ثناء على الله، وإذا كان العبد فهمها وعرفها، فكيف بالخالق عز وجل.

تقول هذه المرأة: (رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد)، ومن الأدلة على كرمه: أنه (قريب البيت من الناد)، الناد: هو منتدى الجلوس، فليس بيته في آخر البلد لأجل أن يفر من الضيفان؛ بل بيته بجانب النادي، وأي أحد يقصده على مدار الوقت، ومثل هذا عندما يكون البيت أقرب بيت للمسجد، ونريد أن نشرب ماء، فأقرب بيت هو الذي نقول له: هات لنا الماء، فهو يعرض نفسه لأقرب مكان لمنتدى الناس، كأنما قيل لها: ما دليل كرمه؟ فقالت: لأنه (قريب البيت من الناد).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحويني #حديث-أم-زرع
اقرأ أيضا
هل فعلها الصحابة؟ | مرابط
مقالات

هل فعلها الصحابة؟


أول ما بدأت تعلم العلوم الشرعية وضعت لنفسي قاعدة لم تخني أبدا كنت كلما احترت في أمر ما أو مسألة صارت مثار جدل وشد وجذب أسأل نفسي: هل فعلها الصحابة؟ من فعلها؟ لماذا تركوها؟ ولماذا فعلوها؟ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم معيار من خلاله نعرف حدود ما يمكن أن نختلف فيه أو بعبارة أدق حدود ما يختلف فيه أهل العلم.. إياك أن تتخيل أنك ستكون أعبد أو أتقى أو أورع لله منهم! أو أحب للنبي صلى الله عليه وسلم منهم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
261
مشروعية الرخصة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مشروعية الرخصة


مقتطف للإمام الشاطبي يتحدث فيه عن مشروعية الرخصة حيث أراد الله جل وعلا أن يخفف على المكلفين ويرفق بهم فالأخذ بالرخصة إذن موافق لقصده وعلى الجانب الآخر من يرفض الأخذ مطلقا بالرخصة واقع فيما نهى عنه القرآن وما نهى عنه الرسول وهذا ما يقف عليه الشاطبي في هذا المقتطف

بقلم: الشاطبي
1227
مشكلة كشمير بالتفصيل | مرابط
توثيقات

مشكلة كشمير بالتفصيل


لم تحتل الهند كشمير لتمتعها بثروات ضخمة حيث إن كشمير لا تملك ما تملكه بعض الدول من الثروات الضخمة غير أن الهدف الأساسي من احتلالها هو استخدامها كقاعدة لمخططات الهند الهدامة وتحقيق مطامعها العدوانية ضد العالم الإسلامي ومقدساته بما فيها الكعبة المشرفة إذ تقول الأساطير الهندية إن الإمبراطورية الهندية كانت تمتد -في يوم من الأيام- من سنغافورة شرقا إلى نهر النيل غربا مرورا بالجزيرة العربية وتستهدف المطامع الهندوسية إقامة الإمبراطورية الهندوسية العظمى لتستعيد مكانتها المزعومة

بقلم: موقع قصة الإسلام
690
بالمساواة يتحقق العدل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

بالمساواة يتحقق العدل


المساواة هي الشعار البراق اللامع الذي يرفعه الكثير من الناس ويقدمونها كأنها قيمة مثالية عليا متى تحققت صلح الواقع وبالتالي فلا يحق لأحد معارضتها أو إنكارها ولكن الحقيقة أن هذا الشعار البراق هو محض وهم فالمساواة ليست دائما حسنة ومن هنا يقف بنا المقال عند قيمة العدل وقيمة المساواة للتفريق بينهما وفهم ميدان عمل كل واحد منهما

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2146
يا بلال قم فناد بالصلاة | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا بلال قم فناد بالصلاة


فائدة منتقاة من فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني بخصوص حديث النبي صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فناد بالصلاة فيدور الحديث هنا على حجية القيام وعلى المقصود بالمناداة والمراد منها ويعرض لنا آراء السلف في ذلك

بقلم: ابن حجر العسقلاني
580
شبهة حول الكسوف والخسوف | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

شبهة حول الكسوف والخسوف


يقول بعض المشككين: الواضح أنه ليس الهدف من البرق أن يخوف الله البشر أو الهدف من الكسوف ما ظنه البعض بجهالة أنه لموت إبراهيم ابن النبى أو خشية قيام الساعة بل الأمر مجرد ظواهر طبيعية عادية وهذا هو فضل العلم الحديث على البشرية جمعاء ولكنهم لم يكونوا يدركون ذلك بعد وكان تفسيرهم لتلك الظواهر نابعا من استنتاجات محدودة وبين يديكم مقال مختصر وموجز في الرد على هذه الفرية

بقلم: محمد الغزالي
692