يطول بحث الإنسان في بعض الأحيان، ويكثر نظره في العلوم، وتأمله في المعارف، ثم لا يخرج من وراء ذلك بطائل، والأدهى حين يكون هذا “الإحباط العلمي” لطالب العلوم الإلهية وعلوم العقائد، وأصول الشريعة، وكلياتها، وما يتبع ذلك من الأنظار في مفصل الشريعة ومقاييسها وتطبيقاتها في هذه الأزمنة المعاصرة. يتيه بين أكوام الخلافيات، وغوامض الكلاميات، ودقائق المعقولات. ويحبط بسبب ضيق النفس، وضآلة الذهن، وعجلة المزاج، ونفاد الصبر. أو بسبب تلوّث المسالك وغبش السبل والاشتغال بالفلسفات والتأويلات القديمة والمحدثة والتفسيرات المدنية والتمحلات “الحضارية” وما إلى ذلك.
يسرد ابن تيمية في مواضع عديدة من مرافعاته جملة من الاعترافات والسير الذاتية لأئمة من أهل الكلام والمتفلسفة القدامى، مشيرًا إلى مآلاتهم المروّعة نتيجة انحراف أنظارهم عن الحق، ودخولهم في متاهات الرذائل النظرية، فيذكر حكايات عن الشهرستاني والرازي وأبي الحديد والآمدي والخونجي وغيرهم، ويقول أن “أكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة بل والتصوف تجدهم في [العلم الإلهي] حيارى”.
ثم يرصد ابن تيمية مآل بعض من هذه حاله، فيقول: أن كثيرًا منهم لما لم يتبين له الحق “اشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله ونحو ذلك، لعدم العلم واليقين الذي يطمئن إليه قلبه وينشرح له صدره”. وهذا نموذج إنساني متكرر، وإن كان بكيفيات متنوعة ومتفاوتة، فأنت ترى بعض من فقد يقينه باعتقاد الحقّ، وكثرت في نفسه الشبهات وتعاظمت الشكوك والريب فلم يطق أن يغالبها ولم يمكنه مفارقة ما هو عليه لبقايا فطرة وانتماء، فتراه منغمسًا في ملذاته، وقد استولى عليه الولع بالجماليات والكماليات، وسائر الملاهي، فغلبة الشكوك وترهل اليقين في القلب تضعف الجوارح عن القيام بالواجب، وتضني الروح لفقد حلاوة الإيمان.
والعقائد أساس لبناء المعنى من الوجود، وهي ما يعزي في ترك الملهيات واجتناب الإغراءات، فإذا ذبل كل ذلك وشحب لون الحقيقة أمست اللذة الحاضرة الفورية الحسية هي اليقين الوحيد المتبقي، بل وصُيّرت هذه العلوم الشريفة وما سواها من العلوم الدنيوية لتكون وسائل موصلة لتحصيل المناصب واكتساب الأموال، وتتبع لذائذ الجسد ومرفهات الحياة ومتعها العابرة.