كراهة إضاعة الوقت بقيل وقال
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله ورسوله، لقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فيجمع المعاني العظيمة في الكلمات القليلة، وهذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كما رأينا يتحدث عن قضايا خطيرة في حياة الأمة الإسلامية.
في الشطر الثاني من الحديث يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكره لنا أن تشغل أوقاتنا بقيل وقال، قال فلان كذا، وقالت فلانة كذا، وفلان روى، وفلانة روت، ونتناقل الأحاديث نشغل بها الساعات الطويلة فنبتعد عن القضايا المهمة بالحديث في سفاسف الأمور، كما هو حادث في هذه الأيام، أخبار تنقل من المشرق والمغرب، لا ندري منها الصحيح من الباطل، والقوي من السقيم، نشغل بها أنفسنا ونعيش في دوامة لا ندري ما الصحيح منها وما غير الصحيح، فنتناقل الأحاديث والأقوال نشغل بها أنفسنا.
كراهة إضاعة المال
كذلك إضاعة المال بلاء أصيبت به الأمة الإسلامية، نضيع أموالنا في طعامنا وشرابنا، ولباسنا، وإنفاقنا، بل منا من ينفق ماله في الحرام، ويبخل إذا ما طلب منه أن ينفق في الحلال، وهذا إضاعة المال في غير محله، ونحن محاسبون مسئولون عنه يوم القيامة، فستسأل عن مالك يوم القيامة، من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ فهل اكتسبته من حلال وأنفقته فيه أم تبذرت به وأنفقته في حرام؟ كل ذلك ستسأل عنه الأمة، ويسأل عنه كل فرد منها.
كراهة كثرة السؤال
أما كثرة السؤال فبلاء يصيب في كثير من الأحيان طلبة العلم، بل يصيب في بعض الأحيان عوام الناس، فيسألون عن المتشابهات والأمور الغامضة، ولا يتجهون إلى تعلم الأحكام الشرعية الواضحة، فيشغلون أنفسهم في أمور قد لا تقع، بل قد يشغلون أنفسهم بأمور متخيلة بعيدة.
بنو إسرائيل شكوا إلى موسى أنهم وجدوا رجلًا قتيلًا لا يعرفون قاتله، فقال لهم: اذبحوا بقرة، فقالوا كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} البقرة:67، كان الواجب عليهم أن يذبحوا أي بقرة كانت، فإذا بهم يسألون ويستفصلون، ويتعنتون: ما لونها؟ ما هي؟ كبيرة أم صغيرة؟ تشتغل أم لا وفي كل سؤال يشدد الله تبارك وتعالى عليهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف، أو يسعى بين الصفا والمروة، ثم يخطب في المسلمين فيقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فيقوم رجل من المسلمين ويقول: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم مغضبًا، وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم).
فعندما يقول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} البقرة:183، ويأتي البيان فنلتزم به، وعندما لا يأتي بيان نحو: (كتب عليكم الحج)، ولا يبين لنا عددًا، فإذا حج الإنسان مرة واحدة فإن هذا يكفي، فهذا الصحابي يقول: أفي كل عام؟ لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم في كل عام، لأصبح واجبًا على المسلمين جميعًا أن يحجوا في كل عام والناس لا يستطيعون ذلك، ثم قال: (ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم).
وقد يكون المقصد من الحديث: سؤال الناس ما عندهم من أموال من غير حاجة، وفي الحديث: (الذي يسأل الناس من غير حاجة، يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)، أي: وجهه كله عظم، كما يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الناس يتعففون عن السؤال، ولا يسألون إلا عندما لا يجدون سبيلًا.
مات رجل كان يسأل الناس من أهل الصفة، وهو فقير لا يجد بيتًا ولا مأوى، وكان يأخذ من الناس، فوجدوا بعد موته دينارًا؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كية) أي: كية في النار؛ لأنه كان يسأل وله دينار واحد، ومات آخر من أهل الصفة وهو فقير يسأل الناس، ويقبل طعامهم، فوجدوا عنده دينارين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كيتان) أي: كيتان في النار يوم القيامة؛ لأنه يسأل وله شيء من المال يغنيه عن ذل السؤال.
(وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم جلدًا قويًا، فأخذ متاعًا للرجل كان على رأسه أو شيئًا من ذلك، وقال: من يشتري هذا؟ فاشتراها صحابي بدرهمين، فقال: أنفق درهمًا على عيالك، واشتري بالدرهم الثاني فأسًا، ولا أرى وجهك إلى أيام، فذهب الرجل واحتطب في أيام وباع، واحتطب وباع، وجاء بعد أيام عشرة أيام وفي يده بضعة دراهم، فقال: هذا خير من أن يسأل أحدكم الناس أعطوه أو منعوه).
هكذا ربى الإسلام أبناءه أن يكونوا رجالًا، وأن يحاولوا قدر طاقتهم أن يتعففوا، ومدح الله تبارك وتعالى المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافًا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب سميع الدعوات، أقول قولي هذا وأقم الصلاة.
المصدر:
محاضرة مع حديث لرسول الله، لعمر الأشقر.