قوله: إن قدمنا النقل كان ذلك طعنًا في أصله الذي هو العقل، فيكون طعنًا فيه غير مسلم.
وذلك لأن قوله: إن العقل أصل للنقل إما أن يريد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، أو أصل في عملنا بصحته.
العقل أصل ثبوت النقل؟
والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل او بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسنا،فما أخبر به الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه.
ومن أرسله الله تعالي إلي الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما اخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفًا علي وجودنا، فضلًا عن أن يكون موقوفًا علي عقولنا، أو علي الأدلة التي نعلمها بعقولنا.
وهذا كما أن وجود الرب تعالي وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلًا لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطيًا له صفة لم تكن له، ولا مفيدًا له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثرًا فيه.
فإن العلم نوعان: أحدهما العملي، وهو ما كان شرطًا في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف علي العلم به محتاج إليه.
العقل أصل علمنا بصحة النقل؟
والثاني: العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلي العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالي وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلي أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالمًا به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكن جاهلًا ناقصًا.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا علي صحته ـ وهذا هو الذي أراده ـ فيقال له: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدنا بتلك الغريزة؟
وأما الأول فلم ترده، ويمتنع أن تريده، لأن تلك الغريزة ليست علمًا يتصور أن يعارض النقل، وهو شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطًا في الشيء امتنع أن يكون منافيًا له، فالحياة والغريزة شرط في كل العوم سمعيها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهى أيضًا شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علمًا، فيمتنع أن تكن منافية له ومعارضة له.
وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل، فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلًا للسمع ودليلًا علي صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف علي ما به يعلم صدق الرسول صلي الله عليه وسلم.
وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلي الله عليه وسلم، بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالي أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلًا للنقل، لا بمعني توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعني الدلالة علي صحته، ولا بغير ذلك، لاسيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم، كالأشعري في أحد قوليه، وكثير من أصحابه أو أكثرهم، كالأستاذأبي المعالي الجويني، ومن بعده من وافقهم ـ الذين يقولون: العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تجري مجري تصديق الرسول علم ضروري، فحينئذ ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير، مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضوع.
وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن القدح فيه قدحًا في أصل السمع، وهذا بين واضح، وليس القدح في بعض العقليات قدحًا في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحًا في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها، كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها.
وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلًا عن صحة العقليات المناقضة للسمع.
فكيف يقال: إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ فإن ما به يعلم السمع، ولا يعلم السمع إلا به، لازم للعلم بالسمع، لا يوجد العلم بالسمع بدونه، وهو ملزوم له، والعلم به يستلزم العلم بالسمع، والمعارض للسمع مناقض له مناف له.
فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه!؟
ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعًا واحدًا متماثلًا في الصحة أو الفساد، ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له، لا صحة البعض المنافي له، والناس متفقون علي أن ما يسمى عقليات منه حق، ومنه باطل، وما كان شرطًا في العلم بالسمع وموجبًا فهو لازم للعلم به، بخلاف المنافي المناقض له، فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطًا في صحته ملازمًا لثبوته، فإن الملازم لا يكون مناقضًا، فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع علي ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله.
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة فساد المقدمات الثلاث التي بنوا عليها تقديم آرائهم علي كلام الله ورسوله.
المصدر:
شيخ الإسلام ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، ص87