![من أبواب العقل والراحة | مرابط](/images/articles/thumbnail/murabet.com_gwykymn.jpg)
والمقصود أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر في أَسَارَى بدر أن تُضرب أعناقُهم فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن تُحجب نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن يُتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته؛ وقال لنساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] فنزل القرآن بموافقته.
ولما توفي عبد اللَّه بن أبيّ قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول اللَّه إنه منافق، فصلى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأنزل اللَّه عليه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84].
وقد قال سعد بن معاذ لما حكَّمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني قريظة: إني أرى أن تُقْتل مقاتلتُهم، وتُسبى ذرياتُهم، وتُغنم أموالُهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات"
ولما اختلفوا في المفوضة شهرًا إلى ابن مسعود قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريء منه، أرى أن لها مَهْر نسائها لا وَكْس ولا شَطَطْ، ولها الميراث، وعليها العِدَّة، فقام ناس من أشْجَعَ فقالوا: نشهد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى في امرأة منا يُقال لها بَرْوَع بنت واشِق، بمثل ما قضيت به، فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك.
وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا، وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً وعلمًا ومعرفةً وفهمًا عن اللَّه ورسوله ونصيحةً للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غَضًّا طريًا لم يَشُبْه إشكالٌ، ولم يَشُبه خلافٌ، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس.
المصدر:
ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ص152