أحوال الرسل مع الله
وتأمّل أحوال الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله، وخطابهم وسؤالهم، كيف تجدها كلّها مشحونة بالأدب قائمة به..
المسيح عليه السلام
قال المسيح عليه السّلام: "إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ" (المائدة/ 116) . ولم يقل: «لم أقله».
وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب.. ثمّ أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسرّه، فقال "تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي" ثمّ برّأ نفسه عن علمه بغيب ربّه وما يختصّ به سبحانه، فقال "وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ" ثمّ أثنى على ربّه، ووصفه بتفرّده بعلم الغيوب كلّها، فقال "إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" ثمّ نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربّه به وهو محض التّوحيد، فقال: "ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ" ثمّ أخبر عن شهادته عليهم، مدّة مقامه فيهم، وأنّه لا اطّلاع له عليهم وأنّ الله -عزّ وجلّ- وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطّلاع عليهم.
فقال "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ" ثمّ وصفه بأنّ شهادته سبحانه فوق كلّ شهادة وأعم، فقال: "وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" ثمّ قال: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ" وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام.. أي: شأن السّيّد رحمة عبيده والإحسان إليهم. وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك؛ فإذا عذّبتهم -مع كونهم عبيدك- فلولا أنّهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيّدهم، وأعصاهم له لم تعذّبهم؛ لأنّ قربة العبوديّة تستدعي إحسان السّيّد إلى عبده ورحمته.. فلماذا يعذّب أرحم الرّاحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؟ لولا فرط عتوّهم، وإبائهم، عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.
وقد تقدّم قول "إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرّهم وعلانيتهم، فإذا عذّبتهم: عذّبتهم على علم منك بما تعذّبهم عليه، فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه، وهذا هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.ثمّ قرأ: "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (المائدة/ 118) . ولم يقل: «الغفور الرّحيم» وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى.
فإنّه قال في وقت غضب الرّبّ عليهم، والأمر بهم إلى النّار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم، فلو قال «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعر باستعطافه ربّه على أعدائه الّذي قد اشتدّ غضبه عليهم؛ فالمقام مقام موافقة للرّبّ في غضبه على من غضب الرّبّ عليهم، فعدل عن ذكر الصّفتين اللّتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزّة والحكمة، المتضمّنتين لكمال القدرة وكمال العلم، والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون من كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليهم بمقدار جرائمهم.
وهذا لأنّ العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله مقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصّفتين في هذا المقام عين الأدب فى الخطاب.
حملة العرش
وفي بعض الآثار «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» ولهذا يقترن كلّ من هاتين الصّفتين بالأخرى، كقوله "وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ" وقوله "فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا".
إبراهيم الخليل
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم: "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء/ 78- 80)، ولم يقل «وإذا أمرضني» حفظا للأدب مع الله.
الخضر عليه السلام
وكذلك قول الخضر عليه السّلام في السّفينة "فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها" (الكهف/ 79)، ولم يقل «فأراد ربّك أن أعيبها» وقال في الغلامين "فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما" (الكهف/ 82).
مؤمن الجن
وكذلك قول مؤمني الجنّ "وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ" (الجن/ 10)، ولم يقولوا «أراده ربّهم» ثمّ قالوا "أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا".
موسى عليه السلام
وألطف من هذا قول موسى عليه السّلام: "رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" (القصص/ 24)، ولم يقل «أطعمني».
آدم عليه السلام
وقول آدم عليه السّلام "رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ" (الأعراف/ 23)، ولم يقل «ربّ قدّرت عليّ وقضيت عليّ»
أيوب عليه السلام
وقول أيّوب عليه السّلام "مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (الأنبياء/ 83)، ولم يقل «فعافني وأشفني».
يوسف عليه السلام
وقول يوسف لأبيه وإخوته "هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ" (يوسف/ 100). ولم يقل «أخرجني من الجبّ» حفظا للأدب مع إخوته، وتفتّيا عليهم أن لا يخجلهم بما جرى فى الجبّ، وقال: "وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ" ولم يقل «رفع عنكم جهد الجوع والحاجة» أدبا معهم، وأضاف ما جرى إلى السّبب، ولم يضفه إلى المباشر الّذي هو أقرب إليه منه، فقال "مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي" فأعطى الفتوّة والكرم والأدب حقّه. ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلّا للرّسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
الأدب مع الله
ومن هذا أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّجل «أن يستر عورته، وإن كان خاليا لا يراه أحد، أدبا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدّة الحياء منه، ومعرفة وقاره.
وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا، فما أساء أحد الأدب في الظّاهر إلّا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب باطنا إلّا عوقب باطنا.
وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السّنن، ومن تهاون بالسّنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة.
وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل، والمقصود أنّ الأدب مع الله تعالى: هو القيام بدينه، والتّأدّب بآدابه، ظاهرا وباطنا
المصدر:
- ابن القيم، مدارج السالكين، الجزء الثالث، ص107