ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضًا، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أُحدث ذلك بعدهم.
قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيرًا، فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبده شرًّا، أغلق عنه باب العمل، وفتح له باب الجدل.
قال مالك: المراء والجدال في العلم يُذهب بنور العلم.
وقال: المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضغن.
فما سكت من سكت- عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة- جهلًا ولا عجزًا، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله. وما تكلم من تكلم وتوسَّع من توسَّع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم. ولكن حبًّا للكلام وقلة ورع.
وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين، فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.
وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم؛ كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت، كيف كانوا؟ كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم.
وكذلك تابعو التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم.
فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبدُ الحقَّ، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
المصدر:
ابن رجب، فضل علم السلف على علم الخلف