أهمية العلم ولزوم الدليل

أهمية العلم ولزوم الدليل | مرابط

الكاتب: ابن القيم

384 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك: إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي؛ فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين.. ومن فارق الدليل، ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم، والشيطان الرجيم.

والعلم ما قام عليه الدليل. والنافع منه: ما جاء به الرسول. والعلم خير من الحال: العلم حاكم، والحال محكوم عليه. والعلم هاد، والحال تابع. والعلم آمر ناه، والحال منفذ قابل، والحال سيف، إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب. الحال مركب لا يجارى. فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف. والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر. فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه.

الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع.. الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها.

نفع الحال لا يتعدى صاحبه، ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر.

دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة. ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه، وربما ضاقت عنه.

العلم هاد والحال الصحيح مهتد به، وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر. وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال.. وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال.

به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون.. به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.

وهو إمام، والعمل مأموم، وهو قائد، والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه.

مذكراته تسبيح.. والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام. والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام.

قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب. لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.

وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.. ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه.

وقال ابن وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه. فوضعت ألواحي وقمت أصلي. فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه. ذكره ابن عبد البر وغيره.

واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجل مشهود به، وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته. وفي ضمن ذلك تعديلهم. فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح.

ومن هاهنا - والله أعلم - يؤخذ الحديث المعروف يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين. وهو حجة الله في أرضه. ونوره بين عباده. وقائدهم ودليلهم إلى جنته. ومدنيهم من كرامته.

ويكفي في شرفه: أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها، وتظلهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير.

ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام - في طلب العلم  هو وفتاه، حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم. حتى ظفر بثلاث مسائل. وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به.

وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال: وقل رب زدني علما. وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة، وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة. فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا. والله سبحانه وتعالى أعلم.


المصدر:
ابن القيم، مدارج السالكين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلم #الدليل
اقرأ أيضا
قصة العلمانية المؤسلمة | مرابط
مقالات العالمانية

قصة العلمانية المؤسلمة


يستعرض المقال عددا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين ويفحصها جميعا من خلال مقارنتها ب المضمون العلماني ليكشف عن وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة وإنما الخصومة والنزاع دائما في التفصيلات والتشريعات الجزئية

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2285
الأسباب والنتائج | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأسباب والنتائج


كثيرا ما يرتبط في أذهاننا أن قوة النتائج مرتبطة بما يظهر من قوة الأسباب في مظاهرها وغطائها المادي ولذلك تهفو النفوس للتعلق بالسبب كثيرا ما يمور في عقولنا تصورات مسبقة أن أقوى الناس هم أولئك الذين يملكون أقوى الأسباب المادية وقد أثار انتباهي تنبيه لطيف لأحد السلف يزلزل هذه القناعات والتصورات المطمورة وقد نقله أبو العباس ابن تيمية واحتفى به في عدة مواضع من كتبه

بقلم: إبراهيم السكران
768
من ثمرات التوحيد | مرابط
مقالات

من ثمرات التوحيد


قال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة وأدعو فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضي انصرفت

بقلم: ابن مفلح
516
المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج2 | مرابط
مناقشات

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج2


حين أخبرني الشيخ أحمد سالم عن كتاب ما بعد السلفية وكان يتوقع رفضا واسعا للكتاب أبديت مخالفتي لهذا التوقع وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلا عند التيار الأوسع من السلفيين كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفا بقراءته قرأته بشكل دقيق فاحص شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا جدا حين ظننت أن مثل هذا النقد سيحدث أثرا إيجابيا أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاء صحيا السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد وحك...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1062
اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات المرأة

اختلاط الجنسين في نظر الإسلام الجزء الثاني


ومعنى غض البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة والوقوع في فساد ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر ولا يتبعوا النظرة بأخواتها وهل يستطيع أحد صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غض أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضوا من حولها والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات تنهى أولي الأمر عن تصرف شأنه أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة

بقلم: محمد الخضر حسين
1704
شبهة حول تحريم المعازف | مرابط
فكر مقالات

شبهة حول تحريم المعازف


هل القول بتحريم المعازف وعدم الاعتداد بخلاف من خالف فيها هو من الغلو في التحريم عند بعض العلماء المعاصرين نظرا لما في هذه الطريقة من إنكار اعتبار الخلاف كما يقرر بعض الناس في هذا المقال يرد الدكتور فهد بن صالح العجلان على هذا السؤال ويناقش مسألة المعازف بشكل مختصر

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2259