الأعمال تشفع لصاحبها

الأعمال تشفع لصاحبها | مرابط

الكاتب: ابن القيم

493 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها - من الحياء والخوف، والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة - من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.

 

وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. وأيضا فإنه يعفى للمحب، ولصاحب الإحسان العظيم، ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره.

 

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: انظر إلى موسى - صلوات الله وسلامه عليه - رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر.

 

وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

 

فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد، قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.

 

وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن ما تذكرون من جلال الله - من التسبيح، والتكبير، والتحميد - يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به؟ ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب، ووهبت له سيئاته لأجل حسناته، ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك، لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له، ويسامحه ما لا يسامح به المشرك، وكما كان توحيد العبد أعظم، كانت مغفرة الله له أتم، فمن لقيه لا يشرك به شيئا البتة غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت، ولم يعذب بها.

 

ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، بل كثير منهم يدخل بذنوبه، ويعذب على مقدار جرمه، ثم يخرج منها، ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه. ونزيد هاهنا إيضاحا لعظم هذا المقام من شدة الحاجة إليه: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور - قوة، وضعفا - لا يحصيه إلا الله تعالى.

 

فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.

ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري.

ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.

وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

 

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

 


 

المصدر:

ابن القيم، مدارج السالكين، ص337

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مدارج-السالكين
اقرأ أيضا
من آداب الإسلام: إكرام الجار | مرابط
اقتباسات وقطوف

من آداب الإسلام: إكرام الجار


مقتطفات من كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم للإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب رحمه الله وهو من أشهر وأبرز المؤلفات الجامعة لأصول وكليات الدين

بقلم: ابن رجب الحنبلي
478
التوحيد في حياة الناس | مرابط
تعزيز اليقين

التوحيد في حياة الناس


لقد كانت حياة الناس قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتوحيد الله تعالى في حالة متردية من الجهل وعبادة الأصنام والأحجار والطواغيت ويستطيع الناظر لحياة المسلمين أن يرصد آثار التوحيد في حياتهم من مختلف الجهات المادية والعقلية والعقدية وبين يديكم مقال مختصر يرصد لنا هذه الفوائد والثمار والآثار

بقلم: أحمد خالد العتيبي
763
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1


وما يذكره العلماء من النصوص في الأسانيد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة وأماراتها إنما هو شيء يسير من أشراط الساعة وذلك أن الإنسان إذا توفرت لديه جميع الشروط التي بتحققها يتحقق المشروط يعلم حينئذ أن الإنسان قد توفر فيه العلم اليقين في معرفة وقوع قيام الساعة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
600
الوكلاء المحليون للأكاديميا الغربية! | مرابط
فكر

الوكلاء المحليون للأكاديميا الغربية!


هراوة الموضوعية تكون في أشد حالاتها حين تسلط على نتاج الباحثين العرب أما حين تستقبل كعبة الأبحاث الأعجمية فثمة رسالية محببة عند بعضهم تفضي إلى الانتصار والدعوة لكل ما دون بأحرف غير عربية. إننا بإزاء حالة من التسويق الرديء بوكالات محلية لنتاج الأكاديميا الغربية لبواعث من أخصها النكاية بالنتاج العربي والاستطالة على الباحثين العرب .. حالة من الخنوع البحثي تبصر القذاة في عين الأبحاث العربية وتنسى الجذوع في أعين الأبحاث الأعجمية!

بقلم: مشاري الشثري
478
الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج2 | مرابط
تفريغات

الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج2


أمة الإسلام مكلفة بالقراءة فهي مخاطبة في أول سورة أنزلت على نبيها محمد صلى الله عليه وسلم بأن تقرأ فهي ضرورية وليست هواية وللقراءة الصحيحة النافعة ضوابط ووسائل ومجالات لا بد للمسلم من معرفتها حتى تكون قراءته نافعة وبين تفريغ لجزء من محاضرة الدكتور راغب السرجاني ويدور حول الوسائل المعينة على القراءة النافعة

بقلم: راغب السرجاني
941
الموسيقى .. حين تكون عقيدة فكرية! | مرابط
فكر

الموسيقى .. حين تكون عقيدة فكرية!


تجاوز الأمر هذا الحد حتى أصبحت الموسيقى عند بعضهم: هي فطرة إنسانية مما فطر الله الناس عليها فمن يحرمها فهو معاد لفطرة الله ومصادم للطبيعة.وحتى تدرك عمق هذه العقيدة الفكرية: لك أن تتخيل أن بعض الناس كان يعارض تدريس القرآن في الفصول الدراسية بدعوى عدم الحاجة إلى ذلك في نفس الوقت كان متحمسا بشراسة إلى ضرورة تدريس الموسيقى في المدارس!

بقلم: فهد العجلان
337