الأعمال تشفع لصاحبها

الأعمال تشفع لصاحبها | مرابط

الكاتب: ابن القيم

402 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها - من الحياء والخوف، والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة - من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.

 

وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. وأيضا فإنه يعفى للمحب، ولصاحب الإحسان العظيم، ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره.

 

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: انظر إلى موسى - صلوات الله وسلامه عليه - رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر.

 

وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى، غاضب ربه مرة، فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى، وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

 

فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد، قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.

 

وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن ما تذكرون من جلال الله - من التسبيح، والتكبير، والتحميد - يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به؟ ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب، ووهبت له سيئاته لأجل حسناته، ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك، لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له، ويسامحه ما لا يسامح به المشرك، وكما كان توحيد العبد أعظم، كانت مغفرة الله له أتم، فمن لقيه لا يشرك به شيئا البتة غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت، ولم يعذب بها.

 

ولسنا نقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، بل كثير منهم يدخل بذنوبه، ويعذب على مقدار جرمه، ثم يخرج منها، ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه. ونزيد هاهنا إيضاحا لعظم هذا المقام من شدة الحاجة إليه: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور - قوة، وضعفا - لا يحصيه إلا الله تعالى.

 

فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.

ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري.

ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.

وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

 

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

 


 

المصدر:

ابن القيم، مدارج السالكين، ص337

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مدارج-السالكين
اقرأ أيضا
شبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام


تقول الشبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام فكيف يتفق ذلك وما جاء في القرآن حيث علمنا أنه ألقى سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن بينما استنادا إلى بعض المصادر وعلى رأسها الكتاب المقدس نجد أنه لم يكن موجودا بعصر إبراهيم بين يديكم في هذا المقال الرد على الشبهة

بقلم: محمد عمارة
1094
صناعة الحياة | مرابط
فكر

صناعة الحياة


استثمار النفس وبناء المستقبل وصناعة الحياة كلمات نسمعها كثيرا ولا مشاحة في الاصطلاح ولكن ثمة ملحظ على أغلب من يردد هذه المصطلحات.. وهذا الملحظ هو أنهم يريدون بهذا الإطلاق المعنى المادي الدنيوي الخالص ويغفلون عما هو أهم وهو المستقبل الحقيقي بعد الموت ذلك المستقبل الأبدي الذي لا يفنى.

بقلم: د. طلال بن فواز الحسان
351
من براهين النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

من براهين النبوة


وكان من حكمة الله سبحانه ورحمته أن أيد أنبياءه ورسله بالآيات والبراهين وعزز دعوتهم بالحجج والدلائل التي من شأنها أن تزيح عن الفطر حجب الشبهات وتنفي عن القلوب خبث الشهوات وتستنقذ العقول من الظلمات بإذن الله وذلك أولا بما جعل في مخلوقاته من الدلالة على خالقها وشهادتها بربوبيته وألوهيته وكماله وحكمته وفي ذلك برهان الأنبياء على ما يدعون إليه من التوحيد والإيمان بالبعث ثم بما خص به أنبياءه من الآيات القولية والحسية الدالة على صدق نبوتهم

بقلم: سعود العريفي
395
أبرز آراء النسوية الراديكالية: إباحة الإجهاض | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: إباحة الإجهاض


إن الغربيين عندما اعتبروا أن المرأة تملك جسدها وهي حرة في التصرف فيه وتهب نفسها لمن تهوى من غير قيم ولا ضوابط إلا رغبتها وميولها الذاتية وأن ذلك فعل فردي شخصي لا يحق للمجتمع أن يقيده ويتدخل فيه عند ذلك زادت حالات الحمل غير الشرعي وأصبحت مشكلة متعددة الأوجه والأبعاد وبدلا من أن يفكر الغربيون بمعالجة أصل الداء وجذره أصبحوا يبحثون عن حلول لأعراضه وكأن الزنا والإباحية أصل لا يمس

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
2250
فقه الواقع: بين النسوية والدعاة | مرابط
النسوية

فقه الواقع: بين النسوية والدعاة


المرأة اليوم متأثرة كما الرجل بمحدثات الثقافة الغالبة وغالبا لن تجد امرأة إلا وهي متأثرة بفكرة المساواة مع الرجل إلى حد ما أو فكرة الاستحقاقية بحيث ترى أن أعظم شيء تمتلكه هو كونها امرأة وفكرة المظلومية فتجدها محملة بالعديد من الأفكار المسبقة وتعتبرها مسلمات ونظرا لأنها تحب الدين فهي تحاول أن تجد نقطة اتصال بين تلك الأفكار والشرع وهنا يأتي دور الداعية الذي لا ينتبه لمداخل العصر ولا لأمراض الناس النفسية فلا يستطيع أن يعالج مشاكل الناس بشكل جذري بسببها هذا إن كان يفهمها أصلا.

بقلم: أسامة لعايض
377
قطاع طريق النصيحة | مرابط
فكر مقالات

قطاع طريق النصيحة


كما أنه لطرق الناس وأموالهم قطاع فللنصيحة قطاع طريق يعترضون طريقها ويمنعون خيرها وهم العقبة الكبرى في تخلف المصالح أن تتم أو تثبت وكثير من الناس إنما يقلع عن زلته حياء ألا يجد موافقا إن أقام عليها مع حبه لها وتمنيه العودة إليها فإن وجد من يفسد على الناصح نصحه فهذه نعمة النفس التي جاءت بلا مقدار

بقلم: عبد العزيز الطريفي
2361