أراكان مأساة شعب يباد

أراكان مأساة شعب يباد | مرابط

الكاتب: ياسر الفخراني

815 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كنا نستمع كثيرًا إلى أساتذتنا وعلمائنا -حفظهم الله ورعاهم ورحم من تُوفي منهم- وهم يدعون بالنصر للمسلمين وحفظ دمائهم في كل بقعة من بقاع الأرض، وبخاصة في فلسطين وأفغانستان وبورما وكشمير وأذربيجان... وغيرها الكثير والكثير من دول العالم الإسلامي وأقاليمه التي تتعرض من حين لآخر للإبادة والتطهير العرقي البغيض.

 

أراكان الإسلامية

وفي خضم الأحداث المتسارعة في شتى بقاع المعمورة، تُطعن أمة الإسلام مرة أخرى في جزء من أجزائها المسلوبة، وفي بقعة من بقاعها المنسية. ومن بين هذه الأحداث تلك المأساة التي تعيشها ولاية أراكان الإسلامية الروهنجية إحدى أقاليم بورما (ميانمار) التي يمثل المسلمون فيها نسبة 70%, وتبلغ مساحتها 20 ألف ميل مربع, ويبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة. ويطل الإقليم على خليج البنغال من الغرب، وتحدها بنجلاديش من الشمال الغربي. وهي محتلة منذ عام 1947م في حكم ميانمار (بورما)، وعاصمة الإقليم هي إكياب, واللغة الرسمية هي (الروهنجيا والعربية).

ولو عدنا بالتاريخ لوجدنا أن الإسلام قد دخل بورما عن طريق أراكان في القرن الأول الهجري، بواسطة التجار العرب، وعلى رأسهم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص بن مالك رضي الله عنه، ومجموعة من التابعين وأتباعهم. حيث كان العرب يمارسون مهنة التجارة، ولأجلها يسافرون إلى أقاصي البلاد ودانيها. وفي يوم من الأيام انكسرت سفينتهم أثناء سفرهم للتجارة في وسط خليج البنغال على مقربة من ساحل أراكان، فاضطروا إلى اللجوء إلى جزيرة رحمبري بأراكان، وبعد ذلك توطنوا في أراكان، وتزوجوا من بنات السكان المحليين.

وحيث إنهم وعوا قوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»، وقوله: «فليبلغ الشاهد الغائب»، فبدءوا بممارسة الأعمال الدعوية بين السكان المحليين بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن ثَمّ بدأ السكان المحليون يدخلون في دين الله أفواجًا. ثم تردد عليها الدعاة من مختلف مناطق العالم، وازداد عدد المسلمين يومًا فيومًا، إلى أن استطاع المسلمون تأسيس دولة إسلامية في أراكان منذ عام 1430م، بيد سليمان شاه. واستمرت الحكومة الإسلامية فيها أكثر من ثلاثة قرون ونصف إلى أن هجم عليها البوذيون عام 1784م.

وهكذا انتشر الإسلام في جميع مناطق بورما حتى بلغ عدد المسلمين حاليًّا عشرة ملايين مسلم، من بين مجموع سكانها البالغ خمسين مليون نسمة؛ أي 20% من إجمالي عدد سكان بورما، أربعة ملايين منهم في أراكان، والبقية منتشرون في جميع المناطق. أما في أراكان وحدها فتبلغ نسبة المسلمين 70%، منهم حوالي أكثر من مليوني مسلم من الشعب الروهنجيا يعيشون حياة المنفى والهجرة في مختلف دول العالم.

 

محاولات القضاء على المسلمين

وكانت بورما منذ سيطرتها على أراكان المسلمة عام 1784م تحاول القضاء على المسلمين، ولكنها فقدت سلطاتها بيد الاستعمار البريطاني عام 1824م، وبعد مرور أكثر من مائة سنة تحت سيطرة الاستعمار نالت بورما الحكم الذاتي عام 1938م. وأول أمر قامت به بورما بعد الحكم الذاتي هو قتل وتشريد المسلمين في جميع مناطق بورما حتى في العاصمة رانجون، واضطر أكثر من 500.000 خمسمائة ألف مسلم إلى مغادرة بورما.

وفي عام 1942م قام البوذيون بمساعدة السلطة الداخلية بتنفيذ حملة قتل ودمار شامل على المسلمين في جنوب أراكان، حيث استشهد حوالي مائة ألف مسلم. ومنذ أن حصلت بورما على استقلالها من بريطانيا عام 1948م شرعت في تنفيذ خطتها لبرمنة جميع الشعوب والأقليات التي تعيش في بورما.

وفعلًا نجحت في تطبيق خطتها خلال عدة سنوات، لكنها فشلت تمامًا تجاه المسلمين؛ إذ لم يوجد أي مسلم بورمي ارتد عن الإسلام أو اعتنق الديانة البوذية أو أي دين آخر. فلما أدركت بورما هذه الحقيقة غيّرت موقفها وخطتها من برمنة المسلمين إلى "القضاء" على المسلمين واقتلاع جذور الإسلام من أرض بورما، وذلك بقتل ونهب وتشريد ومسخ هويتهم وطمس شعائرهم وتراثهم، وتغيير معالمهم وثقافتهم.

ومنذ أن استولى الجيش على مقاليد الحكم عام 1962م اشتدت المظالم على المسلمين بطريق أوسع من السابق، ففي عام 1978م شردت بورما أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم إلى بنجلاديش، وفي عام 1982م ألغت جنسية المسلمين بدعوى أنهم متوطنون في بورما بعد عام 1824م (عام دخول الاستعمار البريطاني إلى بورما)، رغم أن الواقع والتاريخ يكذِّب ذلك. وفي عام 91-1992م شردت بورما حوالي ثلاثمائة ألف مسلم إلى بنجلاديش مرة أخرى.

 

التهجير وأعمال العنف

وهكذا يستمر نزوح المسلمين إلى بنجلاديش ومنها إلى بلاد أخرى كل يوم؛ لأن الحكومة خلقت جو الهجرة، فالوضع الذي يعيشه مسلمو أراكان مأساوي جدًّا.. فهم محرومون من أبسط الحقوق الإنسانية، وهناك مئات الآلاف من الأطفال تمشي في ثياب بالية ووجوه شاحبة، وأقدام حافية، وعيون حائرة لما رأوا من مظالم واعتداءات البوذيين، حيث صرخات الثكالى والأرامل اللائي يبكين بدماء العفة، يُخطف رجالهن ويعلقون على جذوع الأشجار بالمسامير، حيث تقطع أنوفهم وآذانهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وعشرات المساجد والمدارس تُدمر بأيدٍ نجسة مدنسة.

وفي الأول من شهر يونيو 2012م تعرض عشرة من دعاة المسلمين الأراكانيين لمذبحة شنيعة قضوا نحبهم فيها بعد أن هوجموا من قبل جماعة بوذية، فتكت بهم جميعًا ومثّلت بجثثهم، ولم تقف الأمور عند هذه المجزرة فحسب بل تعدتها إلى حرق منازل ومزارع عدد كبير من المسلمين وقتل العشرات بالنيران. ومنذ 8 يونيو هجم البوذيون على المسلمين حينما كانوا يؤدون صلاة الجمعة في مدينة منغدو (المتاخمة لحدود بنجلاديش)، وعند مواجهة المسلمين لتلك الهجمات المفاجئة أطلقت الشرطة الرصاص على المصلين الأبرياء؛ مما أسفر عن مقتل أربعة مصلين.

وبعدها بدأ البوذيون المشاغبون المسلحون بالأسلحة النارية بشن حملات منظمة على المسلمين الأبرياء. وفي 10 يونيو 2012م تم فرض حظر التجول على المناطق التي تقطنها الأقلية المسلمة، وبعدها قامت الجماعات البوذية بتعاون من رجال الشرطة والجيش وقوات حرس الحدود بحملة تطهير عرقي وديني راح ضحيتها آلاف من المسلمين الأبرياء بين القتلى والمصابين بالجروح. كما أن البوذيين أحرقوا أكثر من ثلاثة آلاف منزل من منازل المسلمين.

وفي ظل حالة الطوارئ وفرض حظر التجول في مناطق المسلمين صعبت المعيشة على المسلمين وتزايدت المأساة الإنسانية بشكل مخيف في أراكان، كأنها تحولت إلى سجن كبير، بل الواقع أسوأ من ذلك، حيث لا يستطيعون الخروج من بيوتهم لكسب المعاش أو لشراء ما يسدّ رمقهم. ومن جانب آخر فإن الشرطة تواصل الاعتقالات العشوائية وانتهاك الحرمات، بحيث تحاصر قرية من جميع الجوانب دون إنذار مسبق، ثم تلقي القبض على الرجال والشباب وتغتصب النساء وتنهب الأموال والأشياء الثمينة!!

وقد بلغ الأمر إلى حدٍّ لا يمكن إحصاء المقبوضين أو المتعرضين لهذه الجرائم اللاإنسانية.. وما زالت المأساة مستمرة، ومن ثَمّ فإنني أناشد منظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجميع منظمات حقوق الإنسان في العالم الحر الأبيّ أن تغيث شعب أراكان، وأن تمد لهم يد العون لوقف نزيف الدم، أم لأنهم مسلمون فدماؤهم رخيصة ولا يهتم لمأساتهم أحد؟!! وهنا أتذكر قول الشاعر:

قَتْلُ كلبٍ في غابةٍ قضيةٌ لا تُغتفر *** وقتل شعب آمنٍ مسألةٌ فيها نظر

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#بورما #أراكان #ميانمار
اقرأ أيضا
عولمة المدن الخليجية المعاصرة | مرابط
فكر مقالات

عولمة المدن الخليجية المعاصرة


اجتاحت موجة العولمة كل مدن الخليج تقريبا خصوصا مع بداية تدفق النفط الخليجي وزيادة عمليات التنمية والتطوير ولكن الحقيقة أن هذه الموجة وهذا المسار الذي تتسابق فيه مدن الخليج أدى في النهاية إلى استنساخ مدن أوروبية وغربية فما الداعي أن تكون مكة في طرازها المعماري نسخة من لاس فيجاس أو شيكاغو وما الداعي لهذه الحركة التي قتلت وسحقت الروحانيات والتراث الخليجي والعربي القديم

بقلم: د علي عبد الرءوف
2166
شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الأول


يشتمل المقال على مجموعة من الشبهات المثارة حول المرأة في باب المساواة حيث يحاول العلمانيون والمشككون وأعداء الدين أن يجدوا أي باب ليدخلوا منه ويهدموا الأسرة المسلمة وفي هذه الشبهات ستجدهم يستخدمون بعض الأحاديث النبوية التي يستدلون بها على إمكان المساواة المطلقة بين الجنسين وتجدهم يستندون تارة أخرى إلى العقل والهدف في النهاية واضح والمقال يشتمل على ردود كثيرة على هذه الشبهات

بقلم: موقع المنبر
1639
تفسير سورة العصر 3 | مرابط
تفريغات

تفسير سورة العصر 3


سورة العصر سورة عظيمة فيها من النصح وفيها من التوجيه وفيها من بيان الأحكام وفيها من دلالة الإنسان وإيقاظ عقله وقلبه وتنبيهه أيضا إلى رشده ما يستيقظ منه الغافل لو تدبر وتأمل هذه السورة التي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل على أمة محمد إلا هذه السورة لكفتهم يعني: سورة العصر وهذه السورة فيها من المعاني العظيمة التي يتوقف الإنسان عندها حائرا مما تضمنته مع قصرها فهي من قصار سور القرآن ولكنها عظيمة المعاني

بقلم: عبد العزيز الطريفي
2360
فن أصول التفسير ج7 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج7


وقضية ترتيب الأحداث التي تحدث في السماء قد يكون صعبا أنك تراقب الأحداث ماذا يحصل ثم ماذا يحصل ثم ماذا يحصل قد يكون صعبا وأحيانا في بعض الأحداث قد يمكن أن يقال: النتيجة لهذا فيما يدل عليه العقل لكن على العموم إن كل هذه الأحداث التي تحدث للسماء في قوله: يوم تمور السماء مورا الطور:9 وأكد قوله: تمور بقوله: مورا وهذا من باب التأكيد الذي يسمى المفعول المطلق

بقلم: مساعد الطيار
745
تسويف التوبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

تسويف التوبة


وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف

بقلم: أبو حامد الغزالي
288
من محاسن الفتوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

من محاسن الفتوى


عندما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ به فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابه صلى الله عليه وسلم على سؤاله بقوله الطهور ماؤه ولكنه وزاد بأن قال الحل ميتته فما دلالة ذلك

بقلم: محمد بن إسماعيل الصنعاني
1843