والقرآن الكريم نص صراحة على هذا الأمر فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] قال الإمام الطبري رحمه الله: “{وَإِذَا رَأَيْتَ} -يا محمد- المشركين {الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} التي أنزلناها إليك، ووحينا الذي أوحيناه إليك، وخوضهم فيها كان استهزاءَهم بها، وسبَّهم من أنزلها وتكلم بها، وتكذيبهم بها، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، يقول: فصد عنهم بوجهك، وقم عنهم، ولا تجلس معهم”[1].
وأقوال السلف وسيرهم معروفة في هذا الباب، فالخليفة الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله صَبيغ عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} وأشباهه سيَّره إلى الشام، وزجر الناس عن مجالسته، مع أنه كان سائلًا عن شيء من القرآن، ولكن بغرض تتبّع الشبهات[2].
قال الآجري: “لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلّب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمر الله تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يحذّر غيره”[3].
وقيل لابن عمر رضي الله عنه: إن نجدة الحروري -وهو على رأس أهل البدع- يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء[4].
وكذلك كان موقف التابعي الجليل محمد بن سيرين حين أتاه رجلٌ من أهل الكلام، فقال: ائذن لي أن أحدّثَك بحديث، قال: لا أفعل، قال: فأتلو عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا هذا، فقيل له في ذلك، فقال ابن سيرين: لم آمَنْ أن يذكرَ لي ذكرًا يقدح به قلبي[5].
وورد عنه أيضا أن رجلا دخل عليه في بيته، فذكر له شيئا من القدر، فقال محمد: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] قال: وأخذ بأصبعيه في أذنيه فقال: لتخرجن من عندي أو لأخرجن عنك، فخرج الرجل فقالوا: يا أبا بكر، لو سمعت من الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي، وإني خفت أن ينفث في قلبي شيئًا لا أستطيع أن أخرجه من قلبي، فكان أحب إلي أن لا أسمع كلامه”[6].
وقال أبو قلابة: “لا تجالسوا أصحاب الأهواء -أو قال: أصحاب الخصومات-، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون”[7].
ومما يبين لنا نصاعة هذا الموقف الذي وقفه السلف وأصالته أن الإيمان بأصول الإسلام ليس متوقفًا على ردّ كل ما يثار حولها من شبهات؛ إذ السفسطة والشبهات لا حدَّ لها ولا منتهى لها؛ إذ “ما من حقّ ودليلٍ إلا ويمكن أن يرِد عليه شبه سوفسطائية”[8]، ولو توقف الأمر على ذلك لما آمن أحد بشيء، وقد تساءل الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذا فقال: “فلو قال قائل: هذا الذي علمتموه لا يثبت لا بالجواب عما عارضه من العقليات، قالوا لقائل هذه المقالة: هذا كذب وبهت، فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلّها لم يثبت لنا ولا لأحد علم بشيء من الأشياء، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه الخيالية..
وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا فشيئا، بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته، ولم يكن ما يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به، ولو كانت الشبهة ما كانت، فما من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة يعجز السامع عن حلها”، إلى أن قال: “وهذه الشبه كلها من واد واحد، وهي خزنة الوساوس، ولو لم نجزم بما علمناه إلا بعد العلم برد تلك الشبهات لم يثبت لنا علم أبدا، فالعاقل إذا علم أن هذا الخبر صادق علم أن كل ما عارضه فهو كذب، ولم يحتج لأن يعرف أعيان الأخبار المعارضة له ولا وجوهها”[9].
وقد يقول قائل من الناس: أنا أملك الفضول وأحبّ القراءة والاطلاع على أقوالهم وشبهاتهم وإيراداتهم على الإسلام وأصوله، فلقد أجاب الإمام ابن بطة العكبري على هذا فقال: “لا يحملنّ أحدا منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشدّ فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبَوا إليهم”[10].
ويزداد هذا الرأي قوّة إذا عرفنا أن أصحاب الشبهات “ما كانوا يظهرون من قولهم للناس إلا ما هو أبعد عن أن يكون معروفًا مستيقَنًا من الدين عند العامة والخاصة، وأقرب إلى أن يكون فيه شبهة ولهم فيه حجة، ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية والشرعية والقياسية وغير ذلك، فهذا شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحقّ، إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم، فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة، فإنهم لا يتمكنون، ومما عليه العلماء أن مبدأ الرفض كان من الزنادقة”[11].
الإشارات المرجعية:
-
جامع البيان (11/ 436).
-
أخرجه الدارمي (1/ 252)، والآجري في الشريعة (1/ 483)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 702).
-
الشريعة (1/ 484).
-
ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 137).
-
ينظر: ذم الكلام وأهله للهروي (4/ 348).
-
ينظر: مسائل أحمد برواية الخلال (7/ 9).
-
ينظر: شرح السنة للبغوي (1/ 227).
-
شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 60).
-
مختصر الصواعق المرسلة (ص: 180-181).
-
الإبانة الكبرى (2/ 470).
-
بيان تلبيس الجهمية (3/ 510).
المصدر:
- عمار محمد أعظم، السلف والشبهات بحث في آليات التعامل مع الشبهات والرد عليها، ص6