أهمية العلم ولزوم الدليل

أهمية العلم ولزوم الدليل | مرابط

الكاتب: ابن القيم

452 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

ومن أحالك على غير أخبرنا وحدثنا فقد أحالك: إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي؛ فليس بعد القرآن وأخبرنا وحدثنا إلا شبهات المتكلمين، وآراء المنحرفين، وخيالات المتصوفين، وقياس المتفلسفين.. ومن فارق الدليل، ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم، والشيطان الرجيم.

والعلم ما قام عليه الدليل. والنافع منه: ما جاء به الرسول. والعلم خير من الحال: العلم حاكم، والحال محكوم عليه. والعلم هاد، والحال تابع. والعلم آمر ناه، والحال منفذ قابل، والحال سيف، إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب. الحال مركب لا يجارى. فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف. والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر. فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه.

الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع.. الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها.

نفع الحال لا يتعدى صاحبه، ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر.

دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة. ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه، وربما ضاقت عنه.

العلم هاد والحال الصحيح مهتد به، وهو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر. وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال.. وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال.

به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون.. به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.

وهو إمام، والعمل مأموم، وهو قائد، والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه.

مذكراته تسبيح.. والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام. والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام.

قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب. لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.

وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.. ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه.

وقال ابن وهب: كنت بين يدي مالك رضي الله عنه. فوضعت ألواحي وقمت أصلي. فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه. ذكره ابن عبد البر وغيره.

واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجل مشهود به، وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته. وفي ضمن ذلك تعديلهم. فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح.

ومن هاهنا - والله أعلم - يؤخذ الحديث المعروف يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين. وهو حجة الله في أرضه. ونوره بين عباده. وقائدهم ودليلهم إلى جنته. ومدنيهم من كرامته.

ويكفي في شرفه: أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها، وتظلهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير.

ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران - عليه الصلاة والسلام - في طلب العلم  هو وفتاه، حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم. حتى ظفر بثلاث مسائل. وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به.

وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال: وقل رب زدني علما. وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة، وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة. فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا. والله سبحانه وتعالى أعلم.


المصدر:
ابن القيم، مدارج السالكين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلم #الدليل
اقرأ أيضا
لو كان الدين بالرأي | مرابط
تعزيز اليقين

لو كان الدين بالرأي


وطريقة أهل السنة والجماعة أنهم يحكمون النقل والعقل السليم لا يعارض النقل الصحيح فأهل السنة هذا منهجهم وهذه طريقتهم أنهم يعولون على النصوص وأما العقول عندهم فتابعة للنصوص كما قال بعض أهل العلم: إن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد مهمته أنه يأخذ بالفتوى فإذا أفتاه العالم المجتهد يأخذ بفتواه

بقلم: عبد المحسن العباد
600
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1420
حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج3 | مرابط
تفريغات

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج3


صرح قطز لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار فبدأ الأمراء المماليك يترددون فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلا رائعا في فهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة ولن يرسل جيشا ويبقى هو في عرينه بمصر بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أرسل قطز جيشا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك لتحميس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضط...

بقلم: د راغب السرجاني
664
الأدب مع الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأدب مع الله


وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به وهنا يذكر لنا ابن قيم الجوزية رحمه الله نماذج من خطاب الأنبياء والرسل مع الله تعالى وكيف تتجلى فيها معالم وملامح الأدب الكبير حتى في أدق التفاصيل

بقلم: ابن قيم الجوزية
2233
كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج | مرابط
مقالات

كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج


رحلة الإسراء والمعراج هي أعجب رحلة في التاريخ حيث نقل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلا ثم عاد به إلى بيت المقدس ثم أخيرا إلى مكة كل ذلك في جزء يسير من الليل

بقلم: د راغب السرجاني
650
وظن أنه الفراق | مرابط
مقالات

وظن أنه الفراق


يمكننا تلخيص فكرة الموت بأنها خروج الروح من الجسد وانفصالها عنه بعد التحام وامتزاج دام طوال العمر حيث ابتدأت العلاقة في طور الجنين قبل الإدراك حينما جاء الملك بالروح من عالم الذر ونفخها في تلك المضغة اللحمية في رحم الأم فالإنسان الحي لا يعي حالة الروح المجردة عن الجسد ولا يذكرها البتة.

بقلم: د. جمال الباشا
394