إقناع العقل وإمتاع العاطفة

إقناع العقل وإمتاع العاطفة | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

452 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إقناع العقل وإمتاع العاطفة: وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا.

فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غلوًّا في جانب، وقصورًا في جانب. فأما الحكماء فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك. ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع. "وأما" الشعراء فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غيًّا أو رشدًا؛ وأن يكون حقيقة أو تخيلًا. فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويُطربون وإن كانوا لا يَطربون {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}

وكل امرئ حين يفكر فإنما هو فيلسوف صغير. وكل امرئ حين يحس ويشعر فإنما هو شاعر صغير، فسل علماء النفس: "هل رأيتم أحدًا تتكافأ فيه قوة التفكير وقوة الوجدان وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة ونسبة واحدة؟ " يجيبوك بلسان واحدة: "كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلطت واحدة منهن اضمحلت الأخرى وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره، وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا. وصدق الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} 2.فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء؟

وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال.هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: "فإذا" رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذا ثمرة الفكرة. "وإذا" رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة. "وإذا" رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.وأما أن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر،

فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين. ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان. وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان. وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت؛ ألا تراه في فسحة قصه وأخباره1 لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟

 


 

المصدر:

محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النبأ-العظيم
اقرأ أيضا
التقدمية والرجعية | مرابط
فكر مقالات

التقدمية والرجعية


وإذا كان في هذا العصر تقدم العلم وازدهار الحضارة فإن فيه الحروب المدمرة والقنابل المبيدة والتهتك والفساد وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا ويستأثرون بها دوننا ويشردون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض وتحت كل نجم وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل لا يعرفون السيارات ولا الطيارات ويعيشون على السرج ومصابيح الزيت ولكنهم كانوا سادة الدنيا وكانوا أعز الأمم

بقلم: علي الطنطاوي
1298
شعب النفاق | مرابط
اقتباسات وقطوف

شعب النفاق


ومن تدبر شعب النفاق التي ذكرها الله في مواضع متفرقة من القرآن خصوصا مطلع البقرة والتوبة والأنفال ونحوها من السور المدنية علم سر قلق الصحابة من النفاق فالصحابة لم تكن خشيتهم الأساسية أن يبطنوا الكفر ويظهروا الإسلام فهذا أمر ظاهر وإنما كانوا يخشون أن يقع أحدهم في شعبة من شعب النفاق الدقيقة

بقلم: إبراهيم السكران
317
إضاءة في سبيل العلم وطلبه | مرابط
مقالات

إضاءة في سبيل العلم وطلبه


هل جربت يا طالب العلم قبل كل كتاب تقرؤه أو درس تحضره أو مادة تسمعها أن تتضرع إلى الله وتسأله أن يبارك لك في هذه القراءة وهذا الدرس وأن يفتح على قلبك وأن ييسر لك سبيل العلم النافع وأن لا يكلك إلى نفسك وأن يجعل ذلك كله سبيلا إلى رضوانه.

بقلم: د. طلال الحسان
340
هل أسقط ابن مسعود المعوذتين من مصحفه | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أسقط ابن مسعود المعوذتين من مصحفه


قالوا: اختلف الصحابة في المعوذتين هل هما من القرآن أم لا فكان ابن مسعود يحكهما من المصاحف ويقول: إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه وبين يديكم رد مفصل على هذه الشبهة للدكتور منقذ بن محمود السقار

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
565
ونبلوكم بالشر والخير فتنة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ونبلوكم بالشر والخير فتنة


مقتطف من كتاب في ظلال القرآن قول الله تعالى ونبلوكم بالخير والشر فتنة يقف بنا الأستاذ سيد قطب أمام تفسير الابتلاء بالخير فالابتلاء بالشر مفهوم ويدركه الإنسان ولكن كيف يكون الابتلاء بالخير وكيف يمكن التعامل معه هذا ما يتناوله الكاتب

بقلم: سيد قطب
1750
تحديد المنهجية في انتقاء الكتب | مرابط
تفريغات

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب


ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتاب وأشده تحريرا وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن فافترض مثلا أنك تبنيت كتابا فقهيا فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار أو سبل السلام -وله متن أيضا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها

بقلم: أبو إسحق الحويني
467