الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج1

الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج1 | مرابط

الكاتب: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي

2503 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحرية والفردية

"الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة، فها هو عصر النهضة يأتي كرد فعل لفكر القرون الوسطى، ويتحرر الفرد من الانضباط الكاثوليكي الطويل" (1)

وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطا وثيقًا، فأصبحت الفرديّة تعني استقلال الفرد وحريته، وفي ذلك يقول جون ديوي "كانت فكرة الحرية مرتبطة في تقاليد مذهب الأحرار -عند كل من الأمريكيين والإنجليز بفكرة الفردية؛ أي: بالفرد نفسه من حيث هو فرد، وكان هذا الارتباط وثيقًا وكثير الورود على الألسنة، حتى خاله الناس أمرًا ذاتيًا أصليًا"(2)

وقد جاءت هذه الفردية بمفهومين مختلفين:

أحدهما: الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا المعنى هو الذي غلب على الفكر الليبرالي منذ عصر النهضة وإلى القرن العشرين، وهذا هو الاتجاه التقليدي في الأدبيات الليبرالية.

والثاني: الفردية بمعنى استقلال الفرد من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، هذا هو الاتجاه البراجماتي، وهو مفهوم حديث للفردية.. ومن خلال هذين المفهومين يتبين حقيقة الفردية في الفكر الليبرالي، وهو الأساس الذي تعود إليه الليبرالية، ومن خلاله يتضح معناها.

أولًا الفردية التقليدية:

يربط الليبراليون الفردية بالطبيعة البشرية، فحالة الطبيعة الأولى هي الصورة الحقيقية للإنسان، فيرى هوبز أن الطبيعة الإنسانية شريرة أنانية، تؤكد على الذات وتسعى لتحقيقها وحمايتها، ولكن جون لوك يختلف معه في أن الإنسان شرير، ويوافقه في تأكيده لذاته (3)

وقد كان هوبز أكثر أصالة في تصوره الليبرالي لحقيقة الإنسان من جون لوك (4)، مع أن لوك وصل لذات النتيجة بطريقة أخر ىحيث قرر الملكية الخاصة بصورة أنانية محضة.

فقد قرر لوك أن الله تعالى أعطى الأرض لبني آدم مشاعا بينهم، وجعل العمل هو المبرر الوحيد للملكية (5)، ولكن لوك وقع في تناقض خطير، حيث اعتمد في قوله بأن الله أعطى الأرض لبني آدم مشاعًا بينهم على أساس ديني خبري، ثم زعم أن العمل هو الوسيلة الوحيدة للملكية بناء على ما قررته الطبيعة، وهذا مستند عقلي، وقد أراد لوك أن يعطي العمل قيمة عليا فجعله أساس الحرية الفردية.

وقد بنى "كانت" نظريته الأخلاقية على استقلال إرادة الفرد في مقولته الشهيرة "إن الأخلاقية تنحصر في معاملة الأفراد كغايات" (6) ولهذا يقول "اعمل دائمًا بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونًا كليا للطبيعة.. واعمل دائمًا بحيث تعامل الإنسانية في شخصك، وفي أشخاص الآخرين كغاية لا بمجرد وسيلة.. واعمل بحيث تكون إرادتك -باعتبارك كائنًا ناطقًا- هي الإرادة المشرعة الكلية"(7)

وهو يقصد التأكيد على استقلال الفرد الذاتي، وأن إرادته يجب أن تكون إرادة حرة مستقلة، ولكن رؤية "كانت" جاءت نظرية وليست عملية، ولهذا اعتبرها جون ديوي أخلاقا صورية (8) 

المنفعة والفردية

وقد ارتبطت الفردية بالمنفعة التي ترى "أن الخير هو اللذة، والشر هو الألم، ومن هنا فإن أفضل حالة يمكن بلوغها هي تلك التي يبلغ فيها  تفوق اللذة على الألم أقصى مداه"(9)

وهذا النوع من الفردية نجده لدى بنثام(10)، فإن فكره الفلسفي يعتمد على منفعة فردية من خلال السعادة التي تتحقق عبر الملكية الخاصة، والتي تعني النفعية في صورتها الخالصة، وهي ملكية أي شيء قد يأتي منه فائدة أو مصلحة أو لذة، أو خير أو سعادة (11)، وقد كانت منفعة بنثام هي الوشيجة التي قرّبته من الليبرالية لدعم برنامجه القانوني المبني على المنفعة.

فالفردية والنفعية والأنانية مترابطة بصورة وثيقة، يقول ستيقن لوكس في كتابه الفردية: "فالمذهب الأنوي في الأخلاق، هو ذلك المذهب الذي يسلم بالمبادئ الأخلاقية بوصفها مبادئ فردية على نحو قاطع. لكن يوجد هناك مذهب يصل بتلك المبادئ الفردية إلى أقصى حد ممكن، ذلك المذهب يمكن أن نؤرخ له بصورة أساسية من القرن التاسع عشر، والذي سوف نطلق عليه من الآن فصاعدًا "المذهب الفردي في الأخلاق"(12) ويمكن القول بأن تطور الفردية والأنانية هو تطور مزدوج يحمل وجها إيجابيا؛ أي: تقدم الشخصية الفردية، كما يحمل وجهًا سلبيًا؛ أي: تقدم الأنانية من وجهة نظر المجتمع والفرد في آن واحد (13)

وتحقق الإنسان لفرديته لا يتعارض مع الوضع الاجتماعي العام؛ ﻷنه كلما زاد سعي الفرد لمصلحته الخاصة فإن قانون الطبيعة يقوم بتنظيم الأمور الفردية المتعددة لتؤدي النفع الاجتماعي العام، وهذه العملية التوفيقية بين الفرد والمجتمع نسبها الليبراليون إلى الطبيعة، وقد سماها آدم سميث "اليد الخفية" وهي التي قال عنها ريكاردو (14): "إن السعي وراء الميزة الفردية يرتبط بشكل يدعو إلى الإعجاب مع الخير العام للكافة"(15)


الإشارات المرجعية:

  1. تاريخ الفكر السياسي 358/1
  2. الحرية والثقافة ص33
  3. انظر: في فلسفة السياسة ص100
  4. السبب في خلاف لوك لهوبز هو أن طبقة البرجوازية أرادت تسويق فكرة الحرية الفردية التي تبرر لها كسب الأموال بأي طريق، ولكنها عدلت عن رأي هوبز لأنه ليس له قبول كرجل ملحد بالإضافة إلى أن الوحشية التي صور بها الإنسان ليس لها قبول نفسي، وأيضًا النتيجة التي توصل لها وهي ضرورة الاستبداد للخروج من حالة الطبيعة، وقد عدلت إلى لوك ﻷنه مسيحي، وخاطب المجتمع بطريقة دينية توصل للمطلوب، انظر الليبرالية إشكالية مفهوم ص68
  5. انظر نصوص جون لوك في كتاب: الليبرالية إشكالية مفهوم ص70
  6. تطور الفكر السياسي 89/4
  7. كانت أو الفلسفة النقدية ص199
  8. انظر: مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص65
  9. حكمة الغرب 213/2
  10. جيرمي بنثام: فيلسوف وعالم اقتصاد إنكليزي، ولد سنة 1748م، وتُعرف فلسفته بالبنثامية، وخلاصتها: أن المتعة هي غاية الحياة الأساسية، وأن هدف القانون هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.
  11. نقلا عن الليبرالية إشكالية مفهوم ص56
  12. المرجع السابق ص50
  13. المعجم النقدي لعلم الاجتماع ص415
  14. دافيد ريكاردو: عالم اقتصاد إنجليزي، ولد سنة 1772م، يعتبر مؤسس المدرسة الكلاسيكية في علم الاقتصاد، وقد تأثر بآرائه كل من توماس روبارت مالتوس وجون ستيوارت مل وكارل ماركس
  15. نقلا عن تطور الفكر السياسي 913/4

المصدر:
د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص146

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #الفردية
اقرأ أيضا
إشكال الاختلاط في الطواف | مرابط
أباطيل وشبهات

إشكال الاختلاط في الطواف


نسمع بين الفينة والأخرى سؤالا يتكرر حول إشكالية الاختلاط أثناء الطواف فيقول صاحب الشبهة: نعلم أن الاختلاط محرم في الإسلام ولكن كيف يباح ذلك أثناء الطواف؟ كيف يختلط الرجال بالنساء دون فاصل؟ وبين يديكم رد مفصل على هذه الشبهة للشيخ قاسم اكحيلات.

بقلم: قاسم اكحيلات
499
أصل الأخلاق المذمومة | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصل الأخلاق المذمومة


أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة فالفخر والبطر والأشر والعجب والحسد والبغي والخيلاء والظلم والقسوة والتجبر والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك كلها ناشئة من الكبر

بقلم: ابن القيم
448
استشعار عظمة الله | مرابط
اقتباسات وقطوف

استشعار عظمة الله


وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون معنى كلمة لا إله إلا الله أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين كان أبو جهل أفقه لمعنى لا إله إلا الله من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركا لماذا قامت الحروب ولماذا صبر العرب على حشد الغلاصم وقطع الحلاقم ونفذ الأراقم ومتون الصوارم

بقلم: أبو إسحق الحويني
513
الضوابط الشرعية: رؤية ليبرالية | مرابط
فكر

الضوابط الشرعية: رؤية ليبرالية


حسب الضوابط الشرعية تلك العبارة التي مرت الكثير من الشبهات والمخالفات الشرعية متدثرة بها تمشي في حماها وكانت تمرر من خلالها الكثير من المخالفات الشرعية يقال أنها توافق الضوابط الشرعية ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما وفي هذا المقال رصد لحقيقة هذه العبارة التي انخدع بها المسلمون

بقلم: محمد بن أحمد الزهراني
1729
أمنيات التفسير | مرابط
مقالات

أمنيات التفسير


بعض أهل الأهواء يذكر أحيانا آيات يحتج بها على مقتضى هواه وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا التفسير للآية الذي يطرحه مجرد أمنية أكثر من كونه يقين بمعنى الآية فهو في الحقيقة يتمنى فقط أن يكون معنى الآية كما يريد. تأمل في كثير من التفسيرات والتأويلات والتجديدات التي تطرح اليوم للنصوص الشرعية أليس أكثرها مجرد أمنيات تأويلية يعلم ملقيها وكاتبها قبل غيره أنه يتمنى فقط!

بقلم: إبراهيم السكران
344
مميزات التوحيد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

مميزات التوحيد في الإسلام


البحث في مميزات تشريع الإسلام في التوحيد وقضاياه من أهم ما ينبغي لطلبة العلم الحرص عليه ﻷن هذا المبحث يعد من أهم الموضوعات التي تبين محاسن الإسلام وتفوقه على كل الأديان وتثبت بأنه دين منزل من عند الله تعالى لا تعبث فيه أيدي البشر كما هو في سائر الأديان فضلا عن أن إدراك تلك المميزات من أهم ما يزيد من تقوية إيمان المسلمين بتوحيدهم لربهم وتمسكهم بدينهم.

بقلم: سلطان العميري
879