الأصول الفكرية للنسوية: البطريركية والقمع الذكوري

الأصول الفكرية للنسوية: البطريركية والقمع الذكوري | مرابط

الكاتب: د وضحى بنت مسفر القحطاني

2506 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

ثانيًا البطريركية والقمع الذكوري

 

أ- البطريركية:

 

تتكون البطريركية من كلمتين يونانيتين، تعنيان مجتمعتين (حكم الأب) وهو من المصطلحات التي تروج في حقلي الدراسة الإنسانية (الأنثربولوجيا) والدراسات النسوية، ويبدو أن هنالك فرقًا بين الاستخدام ودلالة الاستخدام في الحقلين وإن تداخلا في بعض المواضع. أما مفهوم البطريركية لدى الأنثربولوجيا فهو يعني سيادة الأب وسيطرته على نظام الأسرة وقد يمتد إلى القبيلة، وفي البيئات البداية قد تكون هذه السيطرة للأم وهو ما يسمى بالنظام الأمومي وهو المقابل للبطريركية.
 
والنسوية انطلقت من المفهوم الأنثربولوجي ولكنها وظفته على حقيقته وتأولته مجازا، تقول الباحثة خديجة العزيزي "والبطريركية لغة تعنى الأب باعتباره قائد الأسرة أو القبيلة، ومجازا راعي الكنيسة. وقد عزت المفكرات مصدر البطريركية لحقل الأيديولوجيا الذي اعتبرنه نظاما يسهل هيمنة الرجل على النساء، واقترحن ضرورة إعادة استخدام مفهوم البطريركية للإشارة إلى الحكم الأبوي الذي يمارسه الزوج على زوجته وعلى أبنائه على أي فرد من أفراد أسرته التي يعيلها.
 
وصرحت ميشيل بارت بأن مفهوم البطريركية له أبعاد كثيرة تشمل كل أشكال هيمنة الرجال على النساء.. وترى كيت ميلليت أن النظام الأبوي كثف من سيطرة الرجال على النساء وسمح بالقمع الأنثوي، بل تعامل الأنثى في النظام الأبوي بوصفها أقل من الرجل وبالتالي يحجر على النساء ويلزمهن قسرًا على الحياة المنزلية والأسرية.
 
ولعله مما يؤكد أن البطريركية هي نظام أبوي وليس المقصود بها الأب الرجل أي رب الأسرة فقط، أن المصطلح له ظلاله الدينية المعروفة فالبطريركية (بطاركة أو بطارقة هي كلمة يونانية مكونة من شطرين، ترجمتها الحرفية "الأب الرئيس") ومن حيث المعنى فهي تشير إلى من يمارس السلطة بوصفه الأب، على امتداد الأسرة.
 
ولذلك فإن النظام المعتمد على سلطة الأب، يدعى النظام البطريركي، أما في المسيحية، فتتخذ الكلمة معنى رئيس الأساقفة في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، ويدعى مكتب البطريرك البطريركية. أما المؤرخون العرب فقد اصطلحوا على الكلمة لفظ بطريق.
 
فرفض النسويات للبطريركية هو رفض للسلطة الدينية والتي كان يمارسها البطارقة بالنيابة عن الأب والذي يعتقد النصارى أنه الله -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا- والابن عيسى كما لا يخفى من عقيدة النصارى (ومن العجيب أن الذي دس في فكر الكنيسة فكرة الأبوة والبنوة بين الله والمسيح بالمعنى المفهوم عندنا -أي بمعنى التوالد- هو الراهب المصري الأعزب أوريغنوس وكان... خدم الرهبان بعد أن تأثر بالأفكار السيئة للفلسفة اليونانية)
 
ومما يشار إليه أن البازعي أشار إلى سعي النسويات إلى  كسر نظام الأبوية بالبحث عن أنظمة أمومية بديلة، فظهرت أبحاث تشير إلى أدوار الآلهات وذلك للسعي إلى تحطيم النظام الأبوي عبر ثقافة أسطورية بديلة.
 
وللأسف أن البطريركية بهذا المفهوم الوثني وصل إلى الباحثات العرب ومن أبرزهن فاطمة المرنيسي، حيث تقول معبرة عن أسفها لتحطيم الآلهة "العزى": كان لا بد من تحطيم العزى ومسحها من الذاكرة، وهكذا ينبغي ألا يظهر المؤنث بعد الآن في حقل السلطة، وسيصبح زمن السلطة النسائية زمن الميت، إنه زمن الصفر"
 
وممن يستخدم الأبوية مقرونا بالسلطة الدينية د. رجاء بن سلامة (لكن وضعية النساء هذه الأقلية التي ليست بأقلية، لا يمكن أن نستوفي الحديث عنها دون التعرض للمؤسسات الأبوية الدينية، التي تسهر بكل ثقلها على أن تبقى موضع تبادل بين الرجال)

 

ب- القمع الذكوري: 

 

ظلت المرأة تنظر للرجل على أنه نِدًٌ و"آخر" والآخر من المصطلحات التي برزت في دراسات الخطاب سواء خلال الهيمنة الاستعمارية أو ما بعدها، ويراد به إقصاء كل ما لا ينتمي إلى نظام فرد أو جماعة أو مؤسسة سواء كان النظام قيمًا: اجتماعية، أو أخلاقية، أو سياسية، أو ثقافية فهو في مقابل الذات (غيري) أو كل ما يهدد الوحدة والصفاء وبهذا المفهوم شاع المصطلح في النقد النسوي وكان الرجل هو الآخر لدى النسويات.
 
رفض المرأة للرجل ورغبتها أن تكون معه على قدم المساواة في شؤون الحياة وأصعدتها المختلفة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومناهضة القمع هي التي دعت النسويات لطلب منحهن السلطة والدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهو ما عرف في الفكر النسوي بمصطلح "منح السلطة".
 
لذا اعتبرت بعض النسويات أن عقد النكاح ليس عقدًا اجتماعيا وإنما قوة أبوية ذكورية تمارس قوة على أساس أنها حقوق زوجية، تقول سيمون دي بوفوار بأن أدوار النساء جميعها من صنع الرجال ومؤسساتهم ولكنها يمكن أن تكون كما تريد لا كما يريد لها الرجل، واقترحت ثلاثة إجراءات تعين المرأة على تجاوز ما هي عليه، وهي:
 
أن تمارس العمل حتى وإن كان قامعًا أو مستغلًا ففي العمل تثبت المرأة تعاليها وأنها ذات، أن تمارس نشاطًا فكريًا، فالنشاط الفكري يتيح لها تغيير المجتمع، أن تحرص أن تكون مستقلة اقتصاديا عن الرجل لأن مفتاح تحرر النساء الاقتصاد.
 
ولم تكن النسويات العربيات بأقل حماسة لمقاومة العنف الموجه ضد المرأة والمطالبة بمنحها السلطة المطلقة، وقد كانت رجاء بن سلامة قد أفردت فصلًا بعنوان "التمييز وعنف التمييز ض المرأة في العالم العربي" تطرقت فيه لمفهوم العنف والتمييز، تقول الباحثة "التمييز والعنف مصطلحان يسميان العنف المسلط على النساء في الصكوك الدولية وفي أدبيات حقوق الإنسان"
 
وعللت رجاء هذا العنف بأنه ما نصت عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية من مواجهة أي اضطهاد ضد المرأة، ويشمل عدم التساوي بينها وبين الرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتلمس د. حسين المناصرة جوانب ضعف المرأة والتي ساهمت في خلق الصورة الضعيفة والمزعجة عن المرأة بشكل عام على الصعيد الإنساني الغربي العربي، ولكنه أشار للعالم العربي بصورة جلية. ويرى المناصرة أن من أسباب شعور المرأة بالدونية والاضطهاد الذكوري هو:
 
1- الأساطير والخرافات عن المرأة وأنها منبع شقاء للرجل
2- المسار الديني عن المرأة أنها قاصرة ضعيفة
3- النظرة للمرأة أنها جسد وسلعة للمتعة والجمال
4- موروث الإبداع واللغة عن المرأة اللذة والرمز.

 
وأخذ يدلل المناصرة بالأساطير القديمة التي تجعل من المرأة شيئًا غريبًا نزل من السماء لعقاب الرجل، والذي كان كما تزعم هذه الأساطير قد بلغ أنصاف الآلهة، فهي الشر المحض بالنسبة للرجل والرمز المرتبط بالخطيئة، وفي المسار الديني أشار المناصرة إلى النصوص الدينية المتعلقة بالمرأة بل إنه أشار إلى دور الأديان في تخليص المرأة من هذا الجور الذي وقع عليها نتيجة هذه الأساطير الملفقة بها.
 
وقد أشار المناصرة إلى ما يثار عن المرأة من شُبه في الإسلام كالتعدد والقوامة والإرث ونقص العقل وأبان بأن هذه القضايا لها موضعها من كتب التفسير والفقه وليس مقامها هذا الكتاب، وأن نقصان عقل المرأة ليس بالمفهوم الاجتماعي السائد وإنما لاعتبارات شرعية لسقوط التكاليف التعبدية عن المرأة، وأعجبني امتعاض المناصرة من بعض الباحثات اللاتي تأولن النصوص على غير حقيقتها، وأشار بعد ذلك إلى الحضور الذكوري القوي على مستوى اللغة العربية.

 


 

المصدر:

  1. د. وضحى بنت مسفر القحطاني، النسوية في ضوء منهج النقد الإسلامي، ص31
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النسوية
اقرأ أيضا
دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة


الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يفرد بها فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده مما ينافي التعبد فطرة وعقلا وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي

بقلم: سعود بن عبد العزيز العريفي
2172
مفاهيم تحتاجها الأمة ج2 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج2


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
675
لفظ القراءة | مرابط
اقتباسات وقطوف

لفظ القراءة


والقراءة أيضا لفظ مشترك المعاني يرا به: أن ينظر المرء في كلام مكتوب في صحيفة فيتلوه سرا أو جهرا. بيد أن النظر في الكلام المكتوب معنى مضاف طارئ على أصل معنى القراءة اكتسبه اللفظ وارتداه بالإلف والعادة حتى غلب عليه. وإنما أصل معنى القراءة: أن تتتبع كلاما قائله غيرك فتجمعه في نفسك وتضم بعضه إلى بعض ثم تلفظه سرا أو جهرا مجموعا يتلو بعضه بعضا كما قاله صاحبه. وأنت تقول: قرأ فلان في صلاته سورة كذا وكذا والمصلي لا ينظر في سورة مكتوبة إنما يتلو ما حفظه وجمعه في صدره غير مبدل لكلماته.

بقلم: محمود شاكر
466
قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام | مرابط
فكر مقالات

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام


هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي ت684 ه أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعلمانيهل كان القرافي يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أن دليل على أن الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير ملزمة وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح

بقلم: فهد بن صالح العجلان
828
شبهة: تغرب الشمس في عين حمئة | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: تغرب الشمس في عين حمئة


يقول المشككون: تغرب الشمس فى عين حمئة حسب القرآن وهذا مخالف للعلم الثابت فكيف يقال: إن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة وبالطبع هذه الشبهة تنطوي على الكثير من الأخطاء والمغالطات وهذا ما يناقشه المقال الذي بين يديكم

بقلم: محمد عمارة
989
بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس | مرابط
فكر مقالات

بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس


نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعية ولا بد من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدث عن هذه القضية وعبارات أخرى مختلفة ستراها ولا بد عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية فعامة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بد في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له أن يرفع لافتة المقاصد الشرعية كتصريح شرعي للمارسات غير الشرعية

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2106