دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة

دلالة الانفراد بالكمال على توحيد العبادة | مرابط

الكاتب: سعود بن عبد العزيز العريفي

2019 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الاتصاف بالكمال المطلق إنما يدل في هذا الباب على استحقاق صاحبه للعبادة، أما دلالته على توحيد العبادة واستحقاق الله عز وجل أن يُفرد بها، فمن حيث إن من لم يبلغ هذا الكمال ولم يتصف به لزمه الاتصاف بضده، مما ينافي التعبد فطرة وعقلا.
 
وعلى هذا فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الجلال والكمال الثابتة للرب -تبارك وتعالى- فإنها أدلة على استحقاقه لأن يفرد بالعبادة، إذ لم يشاركه أحد في شيء من ذلك الكمال الإلهي.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

 

"والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص (يعني آيات الصفات) لمجرد تقرير صفات الكمال، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد الأصلين الذين بهما يتم التوحيد، وهما: إثبات صفات الكمال، ردا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردا على المشركين، والشرك في العالم أكثر من التعطيل" (1)

 

وبهذا الاعتبار فإن جميع معاني الربوبية السابق ذكرها في دلالة توحيد الربوبية على توحيد العبادة تدخل في هذا النوع من الدلالة

 

ومن الأمثلة الظاهرة في القرآن على هذا النوع من الدلالة:

 

1- ما جاء في أعظم آية (2) في كتاب الله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ" والدلالة هنا كامنة في اقتران كلمة التوحيد بهذين الاسمين من الأسماء الحسنى، فإنه يفيد دون شك دلالة الكمال المطلق على توحيد العبادة.
 
وذلك أن هذين الاسمين متضمنان لسائر صفات الكمال، وعليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، فإن الحياة لا تكون أكمل حياة وأتمّها إلا بثبوت كل كمال يُضاد نفيه كمال الحياة، وكذلك القيومية تتضمن كمال الغنى والقدرة، فالمتصف بها قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، مفيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.(3)

 

2- ومما يجمل هذه الدلالة قوله تعالى "هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
 
فقد رتب الأمر بالدعاء (4) في هذه الآية بالفاء، على ما سبقه من الوصف بالحياة وانتفاء الألوهية عن غير الله تعالى

 

3- ومما هو صريح في الاستدلال بتفرد الله تعالى بالكمال على تفرده باستحقاق العبادة: سورة الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)"
 
فإن الآية الأولى منها تدل على تفرد الله تعالى بالكمال المطلق (فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه) (5)
والثانية تدل على أن الله تعالى هو السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج، وهذا هو معنى الصمد على أحد القولين.(6)
 
فعلى هذا يكون مجيء قوله تعالى "الله الصمد" بين ذكر الكمال في أول السورة والتنزيه في آخرها من جنس الاستدلال بالكمال على أن صاحبه هو المستحق لأن يفرد بالعبادة والمسألة دون غيره.

 

4- ومن هذا الضرب من الاستدلال قوله تعالى "رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"(7)
وقد مر ذكر هذه الآية في دلالة الربوبية على توحيد العبادة، أما هنا فالدلالة المقصودة كامنة في مجيء قوله تعالى "هل تعلم له سميًّا" بعد الأمر بالعبادة وبالاصطبار عليها، فإن هذه إشارة إلى دلالة التفرد بالكمال على استحقاق التفرد بالعبادة، فكأنه قال: هل تعلم له سميًّا فيستحق أن يُعبد معه؟

 

5- ومن الإشارات القرآنية إلى هذه الدلالة: ذكر الأسماء الحسنى والصفات العلى الدالة على الكمال بعد ذكر كلمة التوحيد، وذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ" وقوله "وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" وقوله "لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" وقوله "إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" وقوله " مَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" وقوله "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ"

 

6- وأوضح من ذلك دلالة على التوحيد مجيء تنزيه الله سبحانه عن الشرك بعد ذكر صفات الكمال، في كثير من الآيات كقوله تعالى "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ الله عما يشركون" وقوله "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون"

 

7- ومن الاستدلال بصفات الكمال الإلهية على وجود توحيد الله بالعبادة ما قصه الله تعالى عن هدهد سليمان، من إنكار سجود سبأ للشمس من دون الله، قال تعالى فيما حكاه عنه "وَجِئْتُكَ مِن سبأ بنبأ يَقِينٍ* إِنّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شيء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ في السَّمَوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ"
 
والشاهد أن الهدهد استدل على توحيد العبادة بأن الله تعالى هو وحده الذي يُخرج المخبوء في السماوات والأرض، وقد فسّر ذلك بأنه المطر والنبات (8)، فهذا استدلال بكمال القدرة على أنه لا يستحق العبادة غير الله تعالى، ثم أردف ذلك بذكر صفة العلم مستدلا بها على نفس المطلب.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الفتاوى: 6/82
  2. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، في صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (1-465)، برقم (810)
  3. انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز: 1-90
  4. الدعاء هنا يشمل النوعين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، انظر الفرق بينهما في تيسير العزيز الحميد: ص215
  5. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص29
  6. تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية: ص13
  7. معنى سميًّا: شبيها أو مثلا، انظر: جامع البيان: 16-106
  8. انظر: ترجيح أساليب القرآن لابن الوزير: ص43، 159-163

 

المصدر:

  1. د. سعود بن عبد العزيز العريفي، الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، ص271
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأدلة-العقلية #توحيد-العبادة
اقرأ أيضا
وصايا للآباء | مرابط
تفريغات

وصايا للآباء


هذه وصية إلى والدين إلى أبوين حليمين كريمين إلى أب يخاف الله ويتقيه ويعلم أنه مسئول بين يديه وملاقيه وإلى أم تخاف ربها وترعى صغيرها وتكرم بعلها إلى أم صالحة مصلحة هادية مهدية ما أمست ولا أصبحت إلا هدت ودلت وأرشدت

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
392
من أسباب ضياع الوقت | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

من أسباب ضياع الوقت


الوقت المستغل هو الوقت الذي نقضيه في الوفاء بالتزاماتنا الوظيفية والإنتاجية وكذلك الوقت الذي نقضيه فيما يعد مهما للبقاء على قيد الحياة مثل: النوم والأكل والرياضة والعناية بالصحة أما وقت الفراغ فهو الوقت الذي يمضي دون أن نقوم بأي عمل مفيد أو مهم إنه وقت يمضي دون أن نعرف ماذا نصنع به هناك نوع من أوقات الفراغ يضيع أثناء تأديتنا لأعمالنا وذلك حين لا نؤدي أعمالنا بطريقة صحيحة وجادة كما هو شأن كثير من الموظفين

بقلم: د عبد الكريم بكار
656
أهواء الناس في وقت الفتن | مرابط
تفريغات

أهواء الناس في وقت الفتن


كذلك أيضا فإن شهوات الناس وتشوفهم للفتن يتنوع فمن الناس من يلتفت إلى فتنة السمع ومنهم من يتشوف إلى فتنة البصر ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفرج ومنهم من يتشوف إلى فتنة الكلام ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفكر وغير ذلك فتتنوع الفتن فبحسب أهواء الناس تنوعت الطرق

بقلم: عبد العزيز الطريفي
388
وضع الحجاب في الأندلس بعد الاستعمار | مرابط
تاريخ تفريغات المرأة

وضع الحجاب في الأندلس بعد الاستعمار


حظر اللباس الموريسكي الموريسكيون هم المسلمين الذين دخلوا في المسيحية حظر اللباس الموريسكي على الرجال والنساء وإلزام النساء بالإضافة إلى ذلك بكشف الوجه -لأنهن كن قد غطين الوجوه- في الزفاف وفي كل أنواع الاحتفالات تمنع رقصة السمرة وإقامة الليالي أي: تقوم الليالي بمصاحبة الآلات الغنائية ويجب أن تضل أبواب البيوت مفتوحة وتمنع النساء من التخضيب بالحناء ويحظر استعمال الأسماء والألقاب الإسلامية

بقلم: عبد العزيز الطريفي
321
استمداد المذاهب من خارج أهلها | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

استمداد المذاهب من خارج أهلها


يتصور البعض أن المذاهب الفقهية أسوار مغلقة أقرب إلى القنوات المتجاورة التي تسير بجنب بعضها لكنها لا تتمازج أي أنها كانت تجتهد وتفكر وتنتج داخل فضائها الفقهي الخاص فقط وهذا غير دقيق فهناك فقهاء يمكن تسميتهم الفقهاء العابرين للحدود وهم فقهاء أثروا على مذاهب أخرى تأثيرا جوهريا أوجزئيا وفي هذا المقال يناقش المؤلف هذه المسألة ويحلق بنا في فضاء الفقه الإسلامي

بقلم: إبراهيم السكران
1434
اعصها وقم | مرابط
اقتباسات وقطوف

اعصها وقم


اعصها وقم. إذا قالت لك نفسك: أجل تعب الصلاة أو جهد قراءة القرآن واقتصد في جهدك وقوتك. فاسألها: أؤخر إلى متى؟إذا لم يكن بذل قوتي وجهدي في رمضان وفي ليل رمضان فمتى؟ متى أيتها النفس السوء؟! أيتها النفس السوء!

بقلم: خالد بهاء الدين
432