الأهواء المتدينة

الأهواء المتدينة | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1031 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

احتَفلَ بعِيدِ (الكريسمس) مع زَوجَتِه وأطفالِه، وهَنَّأ فيه خادِمَتَه النَّصرانيَّةَ، وتَبادَلَ فيه التَّهانيَ والتَّبريكاتِ والهَدايا بهذا "العيد المَجيد"!
 
لم نَصِلْ إلى مَحَلِّ الاستِغرابِ بَعدُ..
 
اللَّافت للنَّظرِ أنَّ هذا المُحتَفِلَ كان مُستَحضِرًا لِجَمالِ هذا الاحتِفالِ، وبَثَّ في وَعيِ أطفالِه أنْ يَحمَدوا اللهَ على هذا الاحتِفالِ، ويَشكُروه على هذه النِّعمةِ! فهو لا يُمارِسُ هذا الاحتِفالَ مُمارَسةَ المُقَصِّرِ المُفَرِّطِ، ولا حتى مُمارَسةَ مَن يَراه مِنَ الأُمورِ المُباحةِ، بل يُمارِسُه مُستحضِرًا مَعانيَ الطَّاعةِ والتَّديُّنِ والتَّقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى!
 

نماذج الأهواء المتدينة

هذا نَموذجٌ لِمَا يُمكِنُ أنْ نُسَمِّيَه (الأهواء المُتَديِّنة)، وفي واقِعِنا المُعاصِرِ نَماذِجُ عِدَّةٌ لِهذه الظَّاهِرةِ، كحالةِ مَن يَقَعُ في مُخالَفةِ أحكامِ الإسلامِ ولا يَكتَفي بمُخالَفةِ الحُكمِ، بل لا يَتعامَلُ معه على اعتِبارِه مِنَ المُباحاتِ، بل يُضفي عليه مَعانيَ التَّدَيُّنِ والتَّقرُّبِ والطاعةِ التي تُحَقِّقُ المَفهومَ الحَقيقيَّ لِلدِّينِ..

فأحَدُهم يَسمَعُ المُوسيقَا بدَعْوَى أنَّها أداةٌ لِتَهذيبِ الأخلاقِ، وتَطهيرِ النَّفسِ، والسُّمُوِّ بالرُّوحِ، الذي يُزكِّيها ويُقَرِّبُها إلى الفِطرةِ والسُّلوكِ الإيجابيِّ المُعتَدِلِ؛ فلم تَعُدِ الموسيقا مَنهِيًّا عنها، ولا مُجَرَّدَ فِعلٍ مُباحٍ، أو مُجرَّدَ أداةِ استِمتاعٍ ولَهوٍ، بل أصبَحتْ وَسيلةَ تَهذيبٍ وتَزكيةٍ!
 
وثانٍ يَزعُم أنَّ وُجودَ المُحَرَّماتِ وإشاعَتَها هو الذي به يَختَبِرُ الإنسانُ إيمانَه، ويَبلو به تَدَيُّنَه؛ فوُجودُها ضَروريٌّ لأجْلِ أنْ تَظهَرَ هذه المَعاني، وبِدونِها لا وُجودَ لهذا الإيمانِ الحَقيقيِّ!
 
وثالثٌ يَزعُم أنَّ التَّساهُلَ في كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ عَلامةٌ على الوَسطيَّةِ والاعتِدالِ، ويَراهُ ضَرورةً لِمُواجَهةِ التَّطَرُّفِ والتَّشدُّدِ!
 
ورابِعٌ يَدَّعِي أنَّ تَعطيلَ الشَّريعةِ وتَرْكَ الحُكمِ بها، والاحتِكامَ إلى النِّظامِ الدُّنيَويِّ المُحَيِّدِ لِلدِّينِ، هو الذي يُحَقِّقُ مَقصِدَ الدِّينِ وغايةَ رِسالتِه!
 
وخامِسٌ.. وسادِسٌ..
 
مِن نَماذِجَ كَثيرةٍ لافِتةٍ لِلانتِباهِ مِن هذه الأهواءِ المُتَديِّنةِ.. نَماذجَ تُسبِلُ على السُّلوكيَّاتِ والاعتِقاداتِ المُخالِفةِ لِلشَّريعةِ صِفةَ التَّقرُّبِ والتَّزكيةِ والطَّهارةِ، التي تُعَبِّرُ عن مَفهومٍ حَقيقيٍّ لِلدِّينِ.
 
 

ما الإشكالُ في هذا إذن؟


الإشكالُ أنَّ تَرْكَ الالتِزامِ بالأحكامِ -الذي هو مِن جِنسِ التَّقصيرِ والهَوى- أصبَحَ مُحَسَّنًا مُزَيَّنًا في نَفْسِ المُسلِمِ، مُتوافِقًا مع الدِّينِ، مُقَرِّبًا إلى الحَقِّ؛ فلم تَعُدِ تِلكَ المخالفاتُ مُتَضَمِّنةً مَفْسدَةَ المُخالَفةِ فَقَطْ، بل أُضيفَ لها مَفسَدةُ التَّحسينِ والتَّزيينِ للهَوَى والباطِلِ.
 

ولهذا كان مَوقِفُ الشَّريعةِ شَديدًا مِنَ البِدَعِ.
 
لِمَ؟
 

موقف الشريعة من البدع

لِأسبابٍ عِدَّةٍ، نَذكُرُ منها هنا سَببَينِ أساسَيَّينِ:
 
الأوَّلُ: أنَّ البِدعةَ مُحَسَّنةٌ في عَينِه، يَفعَلُها تَدَيُّنًا واعتِقادًا، وهذا يُقَوِّي تَمسُّكَه به؛ ولِهذا قال بَعضُ السَّلَفِ: إنَّ صاحِبَ البِدعةِ لا يَتوبُ مِن بِدعَتِه.
 
الثاني: أنَّ الاجتِهادَ في البِدعةِ يُضعِفُ الاجتِهادَ في السُّنَّةِ؛ فما في النَّفْسِ مِن تَدَيُّنٍ وطاعةٍ واجتِهادٍ إذا صُرِفَ في البِدعةِ، لم يَعُدْ في النَّفْسِ بَقيَّةٌ مِن نَشاطٍ لصَرْفِه في اتِّباعِ السُّنَّةِ؛ فمِشكِلةُ البِدعةِ أنَّ مَفسَدَتَها مِن جِهَتَينِ: الأُولى: أنَّها تُوقِعُ العَبدَ في مُخالَفةِ الشَّريعةِ، والثانية: أنَّها تُضعِفُه عنِ الطَّاعةِ.
 
 
كُلُّنا خَطَّاءٌ، لكِنَّ خَيرَ الخَطَّائينَ التَّوابونَ، وإنْ لم يَتوبوا لم يُجاهِروا، واعتَرَفوا بتَقصيرِهم، وسألُوا اللهَ العَفوَ والمَغفِرةَ، وهو ما عليه أكثرُ الناسِ بحَمْدِ اللهِ تعالَى، إلَّا إذا جاءتِ "الأهواءُ المُتَديِّنةُ"؛ فإنَّ الوَضعَ حينَئذٍ يَنقَلِبُ رأْسًا على عَقِبٍ، بل تَتَزَيَّنُ المَعصيةُ في القَلبِ، ويَستَميتُ في الدِّفاعِ عنها، ويُسبِلُ عليها المَحاسِنَ والمَزايا؛ حتى يَنقَلِبَ المَعروفُ مُنكَرًا، والمُنكَرُ مَعروفًا!
 
 
واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يَهدي السَّبيلَ.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأهواء
اقرأ أيضا
إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة | مرابط
مقالات

إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة


يوافق يوم عرفة هذا العام يوم الجمعة وتلك مزية عظيمة تزيد هذا اليوم فضلا على فضله وشرفا على شرفه وتجعل المسلم أشد استعدادا وتهيؤا له وحشدا لحاجاته ورغباته كي يلهج بها لربه سبحانه وتعالى في هذا اليوم المبارك

بقلم: أحمد قوشتي
350
ابتسامة عفوية | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

ابتسامة عفوية


اليوم ابتسامة عفوية وغدا لقاء عابر في حدود الأدب طبعا وبعده مجاملة رقيقة عابرة في مناسبة أو ما شابه.. ثم يأتي التعلق القلبي وتأتي المرأة تشتكي أنها لا تملك لقلبها شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بقلم: محمود خطاب
370
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج3 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج3


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
490
المؤسسة السياسية الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

المؤسسة السياسية الغربية


أما الوجه السياسي للحضارة الغربية فهو وجه كالح بكل معنى الكلمة فالمؤسسة السياسية الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى وليس لديها أية حواجز أخلاقية أمام مصالحاه فهي ديمقراطية شفافة في السياسة الداخلية -غالبا- ديكتاتورية معتمة في السياسة الخارجية دائما

بقلم: إبراهيم السكران
409
السيطرة على الصورة | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

السيطرة على الصورة


مقتطف من مقدمة كتاب المتلاعبون بالعقول للكاتب هربرت شيللر يتحدث فيه عن أهمية وضرورة السيطرة على الصورة وعلى أجهزة المعلومات وكيف ينتهي شكل شبكات الإعلام إلى مجموعة من التكتلات التي يسيطر عليها مجموعة من الملاك لأهداف واضحة

بقلم: هربرت أ شيللر
458
صراع الإيمان والهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

صراع الإيمان والهوى


كلام بديع للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يتحدث فيه عن الصراع الدائم والمستمر بين الهوى والإيمان وكيف قد يسقط المسلم صريعا للهوى مرة ثم ينهض مرة أخرى ويكشف لنا عن حال إخوان الشياطين وكيف يمدون لهم في الغي والمعصية وماذا يكون لسان حالهم

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2043