الأهواء المتدينة

الأهواء المتدينة | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

1126 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

احتَفلَ بعِيدِ (الكريسمس) مع زَوجَتِه وأطفالِه، وهَنَّأ فيه خادِمَتَه النَّصرانيَّةَ، وتَبادَلَ فيه التَّهانيَ والتَّبريكاتِ والهَدايا بهذا "العيد المَجيد"!
 
لم نَصِلْ إلى مَحَلِّ الاستِغرابِ بَعدُ..
 
اللَّافت للنَّظرِ أنَّ هذا المُحتَفِلَ كان مُستَحضِرًا لِجَمالِ هذا الاحتِفالِ، وبَثَّ في وَعيِ أطفالِه أنْ يَحمَدوا اللهَ على هذا الاحتِفالِ، ويَشكُروه على هذه النِّعمةِ! فهو لا يُمارِسُ هذا الاحتِفالَ مُمارَسةَ المُقَصِّرِ المُفَرِّطِ، ولا حتى مُمارَسةَ مَن يَراه مِنَ الأُمورِ المُباحةِ، بل يُمارِسُه مُستحضِرًا مَعانيَ الطَّاعةِ والتَّديُّنِ والتَّقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى!
 

نماذج الأهواء المتدينة

هذا نَموذجٌ لِمَا يُمكِنُ أنْ نُسَمِّيَه (الأهواء المُتَديِّنة)، وفي واقِعِنا المُعاصِرِ نَماذِجُ عِدَّةٌ لِهذه الظَّاهِرةِ، كحالةِ مَن يَقَعُ في مُخالَفةِ أحكامِ الإسلامِ ولا يَكتَفي بمُخالَفةِ الحُكمِ، بل لا يَتعامَلُ معه على اعتِبارِه مِنَ المُباحاتِ، بل يُضفي عليه مَعانيَ التَّدَيُّنِ والتَّقرُّبِ والطاعةِ التي تُحَقِّقُ المَفهومَ الحَقيقيَّ لِلدِّينِ..

فأحَدُهم يَسمَعُ المُوسيقَا بدَعْوَى أنَّها أداةٌ لِتَهذيبِ الأخلاقِ، وتَطهيرِ النَّفسِ، والسُّمُوِّ بالرُّوحِ، الذي يُزكِّيها ويُقَرِّبُها إلى الفِطرةِ والسُّلوكِ الإيجابيِّ المُعتَدِلِ؛ فلم تَعُدِ الموسيقا مَنهِيًّا عنها، ولا مُجَرَّدَ فِعلٍ مُباحٍ، أو مُجرَّدَ أداةِ استِمتاعٍ ولَهوٍ، بل أصبَحتْ وَسيلةَ تَهذيبٍ وتَزكيةٍ!
 
وثانٍ يَزعُم أنَّ وُجودَ المُحَرَّماتِ وإشاعَتَها هو الذي به يَختَبِرُ الإنسانُ إيمانَه، ويَبلو به تَدَيُّنَه؛ فوُجودُها ضَروريٌّ لأجْلِ أنْ تَظهَرَ هذه المَعاني، وبِدونِها لا وُجودَ لهذا الإيمانِ الحَقيقيِّ!
 
وثالثٌ يَزعُم أنَّ التَّساهُلَ في كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ عَلامةٌ على الوَسطيَّةِ والاعتِدالِ، ويَراهُ ضَرورةً لِمُواجَهةِ التَّطَرُّفِ والتَّشدُّدِ!
 
ورابِعٌ يَدَّعِي أنَّ تَعطيلَ الشَّريعةِ وتَرْكَ الحُكمِ بها، والاحتِكامَ إلى النِّظامِ الدُّنيَويِّ المُحَيِّدِ لِلدِّينِ، هو الذي يُحَقِّقُ مَقصِدَ الدِّينِ وغايةَ رِسالتِه!
 
وخامِسٌ.. وسادِسٌ..
 
مِن نَماذِجَ كَثيرةٍ لافِتةٍ لِلانتِباهِ مِن هذه الأهواءِ المُتَديِّنةِ.. نَماذجَ تُسبِلُ على السُّلوكيَّاتِ والاعتِقاداتِ المُخالِفةِ لِلشَّريعةِ صِفةَ التَّقرُّبِ والتَّزكيةِ والطَّهارةِ، التي تُعَبِّرُ عن مَفهومٍ حَقيقيٍّ لِلدِّينِ.
 
 

ما الإشكالُ في هذا إذن؟


الإشكالُ أنَّ تَرْكَ الالتِزامِ بالأحكامِ -الذي هو مِن جِنسِ التَّقصيرِ والهَوى- أصبَحَ مُحَسَّنًا مُزَيَّنًا في نَفْسِ المُسلِمِ، مُتوافِقًا مع الدِّينِ، مُقَرِّبًا إلى الحَقِّ؛ فلم تَعُدِ تِلكَ المخالفاتُ مُتَضَمِّنةً مَفْسدَةَ المُخالَفةِ فَقَطْ، بل أُضيفَ لها مَفسَدةُ التَّحسينِ والتَّزيينِ للهَوَى والباطِلِ.
 

ولهذا كان مَوقِفُ الشَّريعةِ شَديدًا مِنَ البِدَعِ.
 
لِمَ؟
 

موقف الشريعة من البدع

لِأسبابٍ عِدَّةٍ، نَذكُرُ منها هنا سَببَينِ أساسَيَّينِ:
 
الأوَّلُ: أنَّ البِدعةَ مُحَسَّنةٌ في عَينِه، يَفعَلُها تَدَيُّنًا واعتِقادًا، وهذا يُقَوِّي تَمسُّكَه به؛ ولِهذا قال بَعضُ السَّلَفِ: إنَّ صاحِبَ البِدعةِ لا يَتوبُ مِن بِدعَتِه.
 
الثاني: أنَّ الاجتِهادَ في البِدعةِ يُضعِفُ الاجتِهادَ في السُّنَّةِ؛ فما في النَّفْسِ مِن تَدَيُّنٍ وطاعةٍ واجتِهادٍ إذا صُرِفَ في البِدعةِ، لم يَعُدْ في النَّفْسِ بَقيَّةٌ مِن نَشاطٍ لصَرْفِه في اتِّباعِ السُّنَّةِ؛ فمِشكِلةُ البِدعةِ أنَّ مَفسَدَتَها مِن جِهَتَينِ: الأُولى: أنَّها تُوقِعُ العَبدَ في مُخالَفةِ الشَّريعةِ، والثانية: أنَّها تُضعِفُه عنِ الطَّاعةِ.
 
 
كُلُّنا خَطَّاءٌ، لكِنَّ خَيرَ الخَطَّائينَ التَّوابونَ، وإنْ لم يَتوبوا لم يُجاهِروا، واعتَرَفوا بتَقصيرِهم، وسألُوا اللهَ العَفوَ والمَغفِرةَ، وهو ما عليه أكثرُ الناسِ بحَمْدِ اللهِ تعالَى، إلَّا إذا جاءتِ "الأهواءُ المُتَديِّنةُ"؛ فإنَّ الوَضعَ حينَئذٍ يَنقَلِبُ رأْسًا على عَقِبٍ، بل تَتَزَيَّنُ المَعصيةُ في القَلبِ، ويَستَميتُ في الدِّفاعِ عنها، ويُسبِلُ عليها المَحاسِنَ والمَزايا؛ حتى يَنقَلِبَ المَعروفُ مُنكَرًا، والمُنكَرُ مَعروفًا!
 
 
واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يَهدي السَّبيلَ.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأهواء
اقرأ أيضا
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر


مقتطف لابن القيم من كتاب الفوائد يذكر فيه قاعدتين جليلتين في دين الإسلام ألا وهما الذكر والشكر قال تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ويفصل لنا الحديث عنهما وما جاء فيهما في كتاب الله المحكم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
1053
الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب | مرابط
النسوية

الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب


عند النظر إلى تلك الحركات والمنظمات النسوية نجد أنها نابعة من أرضية لا دينية ووليدة حكومات ومجتمعات غربية لا تملك أدنى مقومات إنصاف المرأة فالمرأة هناك تستغل أبشع استغلال لتعيش وتعيل نفسها وعائلتها أما فكرة تحرير المرأة في العالم العربي فلم تبرز إلا من خلال الاستعمار الغربي لدول المنطقة العربية فالمتأمل لواقع الشخصيات النسائية اللاتي تبنين تلك التوجهات يجدهن شخصيات تأثرت بالمدنية الغربية فضلا عن أنهن عشن ظروفا اجتماعية قاسية انعكست سلبا على فكرهن وتوجههن لاحقا

بقلم: نورة بنت عبد الرحمن الكثير
1004
المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج1 | مرابط
مناقشات

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج1


حين أخبرني الشيخ أحمد سالم عن كتاب ما بعد السلفية وكان يتوقع رفضا واسعا للكتاب أبديت مخالفتي لهذا التوقع وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلا عند التيار الأوسع من السلفيين كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفا بقراءته قرأته بشكل دقيق فاحص شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا جدا حين ظننت أن مثل هذا النقد سيحدث أثرا إيجابيا أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاء صحيا السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد وحك...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1146
لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا؟


يقولون: لماذا لا يعيش الغربيون معيشة ضنكا ألم يرد في القرآن الكريم قول الله ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فأين الضنك في حياة الغربيين الذين لم يعرضوا فقط عن ذكر الله وإنما هم لم يؤمنوا أصلا بالإسلام والغرب اليوم على ما هو عليه من التقدم والتطور والسعة والرفاهية لماذا لم تتحقق فيه هذه الآية

بقلم: محمود خطاب
897
الخصوصية الثقافية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الخصوصية الثقافية


فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش ولكن لا تتداخل تداخلا يفضي إلى الامتزاج البتة ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئا إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدلته وخلصته من الشوائب وإن استعصى نبذته واطرحته.

بقلم: محمود شاكر
376
الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج1 | مرابط
تفريغات

الوسائل المعينة على القراءة النافعة ج1


أمة الإسلام مكلفة بالقراءة فهي مخاطبة في أول سورة أنزلت على نبيها محمد صلى الله عليه وسلم بأن تقرأ فهي ضرورية وليست هواية وللقراءة الصحيحة النافعة ضوابط ووسائل ومجالات لا بد للمسلم من معرفتها حتى تكون قراءته نافعة وبين تفريغ لجزء من محاضرة الدكتور راغب السرجاني ويدور حول الوسائل المعينة على القراءة النافعة

بقلم: راغب السرجاني
1894