ما إلحاد القرنين العشرين والواحد والعشرين؟
إنه ذاك الصّراخ الصّاحب والحَفد السريع لإثبات أن الإنسان بهيمةٌ من البهائم لاتَفْضْل النعاج والسباع بشيء، وإن تميّرَت عنها جينيا، كتميّز القطّط عن الضّفَادع، والكلاب عن القنافد، والقرود عن التُعالب. وليس في ذلك التمايز فاضل ومفضول، ولا حَسَنٌ ومقبوحٌ؛ لأنّ هذا الاختلاف كمي لا تَعلّق له بالفضائل القيميّة؛ فهو لا يرفع الخير فوق الشرّ ولا يَسْتَحْسِن الحقٌّ دون الباطل. وقد ألغى الإلحادٌ -بذلك- الفارق بين الوحشيّة والأخلاق المدنيّة، والعقل والجنون..
لقد ترك الملاحدة للداروينتة صياغة صورة حقيقة الإنسان وصناعة مراحل تاريخه؛ وهو أمر يَظهَر بوضوح في جميع أدبياتهم عند مناقشة قضايا نظريّة المعرفة والقيم، ومعنى الحياة. والفكاك عن ذلك -إلحاديًا- مُحالٌ؛ لأنّ رفض الداروينية أو أيّ صورة أخرى من صور التطوّر العشوائي للكائنات الحيّة؛ حُجَة للتدخل فوق الطبيعي (=الإلهيّ) في هذا العالم، وذاك ما يرفضه الملاحدة قاطبة؛ فإنّ العلم قد أثبت أن مستوى تعقيد الكائنات الحيّة بالغ جدًّا، لا يمكن تفسيره بالنُشُوء العفويّ اللّحظيّ؛ ولذلك يَفِر الملاحدةٌ إلى الخلْقِ العشوائي التّدَرّجِيَ البطيء جدًا من البسيط إلى المعقّد.
لقد أَسَقَطَ الإلحاد الإنسان المؤمن بالداروينية من عز التكريم الإلهيّ إلى درَكِ الحيوانية بعد أن سَلَبَهُ فضيلتين، أولاهما: أن الكون مسخر له؛ وقد خلق الحيوان والنبات لأجله، وله أن يأخذ منهما لتحقيق بقائه ما شاء ضمن حدود تضبطها الشرائع السّماوية. وثانيهما: أنه مخلوق بزينة العقل؛ فهو بعقله يرتقى فوق جميع الحيوانات ليكون الكائن الأرضيّ الوحيد المخلوق لينحت طريقَهُ في الحياة عن إرادة حُرَّةٍ ووّعي لا عن غريزة جبرية قاهرة..
لقد أضحى الإنسان -في الرؤية الالحاديّة- جزْءًا من الطبيعة، لا يَفضل غيرَهُ بشيء؛ فكلٌ الأحياء على الأرض أثرٌ لأخطاء النَّسخ في الشّريط الصَبغيّ داخل الخلية، فلا تمايز ولا تَفَاضُلَّ ولا قيمة ترفع وتخفض... كل العالم المادي الحيّ طفيلي على الأرض، لم يُسْتَدْعَ وجوده، وإِنّما تسلّل عن طريق الحركة العمياء للتّناسخ الحيويّ.
إن الطبيعة التي تحيط به لم تُخلقْ له -كما هو مُعْتَقَدُ المؤمنين بالقرآن-، وإنّما تطوّرَ الإنسانٌ ليوافق بناء الطبيعة. وإن كان لأحدهما فضْلٌ؛ فَليكُنْ هو فضل الطبيعة التي
أنشأته وأَخْضَعَته لها ضمن سنّة الانتتخاب الطبيعي.
المصدر:
د. سامي عامري، الإلحاد في مواجهة نفسه، ص35