الإنسان ذئب لأخيه الإنسان

الإنسان ذئب لأخيه الإنسان | مرابط

الكاتب: د. سامي عامري

1385 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أدرك كثير من المعاصرين لداروين عند إصداره في كتابه (في أصل الأنواع) خطورة لوازم نظريته على الإنسان، رغم أن داروين لم يتحدث في أمر تطور الإنسان إلا لاحقا في كتاب (في أصل الإنسان) ومن هؤلاء آدم سدجويك -المشرف السابق على داروين في العلوم الطبيعية في جامعة كمبردج- فقد كتب إلى داروين رسالة سنة 1859، بعد فترة قصيرة من نشر كتاب (في أصل الأنواع)، قال فيها: "فقرات في كتابك.. صدمت كثيرا ذوقي الأخلاقي.. هناك جزء أخلاقي أو ميتافيزيقي في الطبيعة بالإضافة إلى الجزء الفيزيائي. من ينكر ذلك واقع في قاع مستنقع الحماقة.. في رأيي، إن البشرية ستعاني من ضرر قد يُثخن فيها، وسيهوى الجنس البشري إلى درجة دنيا متدهورة أدنى من أي درك بلغة الإنسان في تاريخه المكتوب"

 

عندما ينزل الإنسان إلى مرتبة الحيوان تحكمه لغة الغاب، وشريعة الافتراس والانتهاس؛ يصبح العدل دالا بلا مدلول؛ لافتقاده أرضية تُبنى عليها مفاهيم الإنسان، والحق، والواجب.

 

ولقد تمثل هتلر لاحقا روح الداروينية في قوله في كتابه كفاحي، عند حديثه عن رؤيته الكونية التي (لا تؤمن بأي حال من الأحوال بالمساواة بين الأعراق.. ومن خلال هذه المعرفة تشعر أنها مضطرة -وفقا للإرادة الأبدية التي تحكم هذا الكون- لتعزيز انتصار الأفضل، والأقوى، وللمطالبة بخضوع الأسوأ والأضعف. وبالتالي هي تعتنق بصورة مبدئية القانون الارستقراطي للطبيعة، وتؤمن لصحة انطباق هذا القانون على الجميع. وهي لا تعترف فقط بالقيمة المختلفة للأعراق، وإنما تؤمن أيضًا باختلاف قيمة الأفراد)

 

لما واجه أحد أصحاب داوكنز من التطوريين داوكنز بحقيقة مآلات الداروينية قائلًا: هناك مجموعة كبيرة من الناس غير مرتاحة لقبول التطور؛ ﻷنه يؤدي إلى ما يعتبرونه فراغا أخلاقيا، حيث تفقد أفضل رؤاهم الأخلاقية كل أساس في عالم الطبيعة!

أجابه داوكنز بقوله: كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الأمر شديد، وعلينا مواجهة ذلك.

 

وقد كان جون لوك -أحد أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في التاريخ الأوروبي- مدركا منذ قرون مآلات الإلحاد إن التزمه صاحبه كامل الالتزام؛ ﻷنه يطلق في الإنسان ذئبيَّته الشرسة، دون رادع؛ فكتب في رسالته الشهيرة "رسالة حول التسامح": الوعود والعهود والأيمان، التي هي روابط المجتمع البشري، لا يمكن أن تكون ملزمة للملحد. التلخص من الإيمان بالله، حتى لو كان في عالم الفكر وحده، يذيب كل شيء"

 

إن الفعل الذي يفعله الإنسان -مهما كان قبحه- لا يخرج في كليّته -في التصور الإلحادي- عن أن يكون حركة فيزيائية لا علاقة لها بالحسن والقبح؛ فقتل إنسان لآخر لا يخرج عن إدخال سكين بسرعة في بطن آخر، أو إطلاق رصاصة لتستقر في دماغ ثان.. أفعال لا معنى لإدانتها، كما أننا لا نُدين الأسد إذا أمسك بغزالة، وأنشب أنيابه في عنقها لشل حركتها، ثم انتهشها، ولا ندين القطة إذا اقتنصت فأرًا لغدائها.. لا فارق البتة.. إذا لم يكن الأسد والقطة ظالمين آثمين؛ فلم يُدان الإنسان في عالم بلا أخلاق، باعتراف الملاحدة؟!

 

في عالم إلحادي، ليست الأنانية القصوى رذيلة؛ إذ أننا لن نجد سببًا ماديًا لإدانة الرغبة في احتكار أسباب المتعة.. في عالم مظلم بلا خير ولا شرّ، لا يُمكن أن نجد أساسًا وجوديًا لإدانة من يروي عطشه لسعادته الشخصية على حساب غيره؛ إذ إن سعادة الآخرين أمر غير جدير بالاعتبار.. ولذلك صرّح داوكنز أنه من العسير -إلحاديا- أن تجد أساسًا لإدانة هتلر! ولما قال له الصحفي: ضمن نظراتك الإلحادية، لا أساس لإدانة الافتصاب أنه خطيئة، فإن إنكار هذا الفعل موقف اعتباطي، لم يجد داوكنز بدًا من موافقته.

 

إنه عالم متعاطف مع نيتشه في استخفافه بأخلاق الرحمة وإغاثة المكروثين؛ فكل مبادئ الأخلاق أكاذيب من صنع الخيال، وكل تحليلاته النفسية محض تزوير، وكل أشكال المنطق التي أقحمها الناس في مملكة الأكاذيب هذه لا تعدو أن تكون سفسطات.

 

الحقيقة الوحيدة هي الحياة الفعلية، وهي منافرة بطبعها للأخلاق المتسلطة عليها من الخارج، وللمثل العليا التي تدعونا إلى الإحسان إلى الضعفاء وإكرام المحتاجين. إن هذه المثل تفقر الحياة الحقيقة وتكاد تسلبها حيويّتها.

 

وتسير هذه الأخلاق المثالية بذلك عكس الانتخاب الطبيعي الذي لا يُبقي على الأرض غير ذاك الذي فاز عن جدارة بحق البقاء في معركة الحياة الملحمية؛ فلا تستبقي الحياة إلا ذاك القادر على التكيف والتطور، وأما العاجز والقاصر فمصيره الزوال. إن الشفقة بالضُّعفاء أشدّ القيم منافرة لطبيعة الغابة. "إن الشفقة فضيلة المومس" كما هي عبارة نيتشه.

 

كما ترفض الطبيعة منطق الأخلاق في المساواة بين الكائنات -في أي صورة من صور المساواة- ﻷن الطبيعة قائمة على التمييز والتفرقة وترتيب الأحياء رأسيًا لا أفقيا في باب القوة؛ فهم بين أعلى وأدنى منه، وأضعف الجميع..

 

كل ذلك حافز حيوي قوي مُتَمَاهٍ مع الوجود الطبيعي لإنكار أخلاق المثل، خاصة الرحمة والعفو والتكافل ونجدة المحتاج. فهل هناك داع متجاوز للطبيعة يدعو الملحد إلى أن يصنع أخلاقا لا طبيعية أو فوق طبيعية؟

 

الملحد المستسلم لفطرته؛ ذئب لأخيه الإنسان، والمعارض لفطرته الغابيّة، فاقد لأساس وجودي يقيم عليه أخلاق الفضيلة

 

في عالم الإلحاد الصادق مع أصوله؛ طلب البقاء هو القيمة الوحيدة، والصراع هو الآليّة، والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة.

 


 

المصدر:

د. سامي عامري، الإلحاد في مواجهة نفسه، ص127

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإلحاد #الداروينية
اقرأ أيضا
التواصل الشبكي: إدمان أم مهرب | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

التواصل الشبكي: إدمان أم مهرب


ومن التصورات الشائعة: الظن أن العالم الجوهري في الإدمان الشبكي هو بفعل الجاذبية الاستثنائية للمحتوى على الإنترنت بحيث يخلب المرء عن المهام الأخرى وهذا التصور غير دقيق البتة فقد أكدت دراسات هذا الحقل أن الإدمان الشبكي كثيرا ما يكون آلية هروب نفسي

بقلم: إبراهيم السكران
494
قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس


يقرر قانون السببية أن شيئا من الممكنات لا يحدث بنفسه من غير شيء لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ولا يستقل بإحداث شيء لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئا لا يملكه هو كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عدد إيجابي فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سبب خارجي وهذا السبب الخارجي إن لم يكن موجودا بنفسه احتاج إلى غيره فلا مفر من الانتهاء إلى سبب ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب

بقلم: د محمد عبد الله دراز
2242
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: فضائلهن وخصائصهن | مرابط
تفريغات

أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: فضائلهن وخصائصهن


كما أن في الرجال رجالا أفاضل سبقوا إلى الإسلام وأفنوا أعمارهم في العلم والدعوة والجهاد فكذلك في نساء الأمة فضليات كن شامات في هذه الأمة المباركة وكن عونا لرجالهن على مهامهم في خدمة دين الله تعالى وفي مقدمتهن أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن إذ عشن في بيت النبوة وخدمن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلن عنه أقواله وأفعاله وأحواله في خاصة بيته وأهله

بقلم: د إبراهيم بن محمد الحقيل
2006
المدارس العالمية وتعلم اللغات | مرابط
فكر لسانيات

المدارس العالمية وتعلم اللغات


لي تجربة مع ولدي كان العمل يعطيني بدلا للتعليم يدخله أغلى مدرسة دولية لكنني فضلت لغة دينه وأمته ثم لما اطمأننت عليها دفعته قبل الجامعة بعام أو عامين لتعلم الإنجليزية فأتقنها وها هو الآن يدرس بها فلا هو ضيع لغته ودينه ولا هو تأخر عن غيره من أهل اللغة التي يدرسونها منذ نعومة أظفارهم على حساب لغة قرآنهم وأمتهم.

بقلم: د.خالد حمدي
476
ما رأيت مثله وما رأى هو مثل نفسه | مرابط
اقتباسات وقطوف

ما رأيت مثله وما رأى هو مثل نفسه


هو شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علما ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرا إلاهيا وكرما ونصحا للأمة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.. مقتطف ماتع للإمام الذهبي يتحدث فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية بأوضح عبارة يصف لنا علمه وشيئا من مواقفه..

بقلم: الإمام الذهبي
360
مع الحرية التي يريد د. طارق السويدان | مرابط
فكر مناقشات

مع الحرية التي يريد د. طارق السويدان


تداول الإخوان هنا مقطعا للدكتور طارق السويدان يتحدث فيه عن الحرية يقرر فيه أن الحرية قبل تطبيق الشريعة وأن حرية نشر الكفر والإلحاد حق مكفول في الشريعة .. الخ الكلام الذي ذكره الدكتور في المقطع وهو كلام معاد في الموضوع سبق أن عرض كثيرا من شخصيات مختلفة ويعاد ضخه بأساليب ومفاهيم جديدة.. وبين يديكم رد على هذا الكلام.

بقلم: د. فهد بن صالح العجلان
389