الإنسان ذئب لأخيه الإنسان

الإنسان ذئب لأخيه الإنسان | مرابط

الكاتب: د. سامي عامري

310 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

أدرك كثير من المعاصرين لداروين عند إصداره في كتابه (في أصل الأنواع) خطورة لوازم نظريته على الإنسان، رغم أن داروين لم يتحدث في أمر تطور الإنسان إلا لاحقا في كتاب (في أصل الإنسان) ومن هؤلاء آدم سدجويك -المشرف السابق على داروين في العلوم الطبيعية في جامعة كمبردج- فقد كتب إلى داروين رسالة سنة 1859، بعد فترة قصيرة من نشر كتاب (في أصل الأنواع)، قال فيها: "فقرات في كتابك.. صدمت كثيرا ذوقي الأخلاقي.. هناك جزء أخلاقي أو ميتافيزيقي في الطبيعة بالإضافة إلى الجزء الفيزيائي. من ينكر ذلك واقع في قاع مستنقع الحماقة.. في رأيي، إن البشرية ستعاني من ضرر قد يُثخن فيها، وسيهوى الجنس البشري إلى درجة دنيا متدهورة أدنى من أي درك بلغة الإنسان في تاريخه المكتوب"

 

عندما ينزل الإنسان إلى مرتبة الحيوان تحكمه لغة الغاب، وشريعة الافتراس والانتهاس؛ يصبح العدل دالا بلا مدلول؛ لافتقاده أرضية تُبنى عليها مفاهيم الإنسان، والحق، والواجب.

 

ولقد تمثل هتلر لاحقا روح الداروينية في قوله في كتابه كفاحي، عند حديثه عن رؤيته الكونية التي (لا تؤمن بأي حال من الأحوال بالمساواة بين الأعراق.. ومن خلال هذه المعرفة تشعر أنها مضطرة -وفقا للإرادة الأبدية التي تحكم هذا الكون- لتعزيز انتصار الأفضل، والأقوى، وللمطالبة بخضوع الأسوأ والأضعف. وبالتالي هي تعتنق بصورة مبدئية القانون الارستقراطي للطبيعة، وتؤمن لصحة انطباق هذا القانون على الجميع. وهي لا تعترف فقط بالقيمة المختلفة للأعراق، وإنما تؤمن أيضًا باختلاف قيمة الأفراد)

 

لما واجه أحد أصحاب داوكنز من التطوريين داوكنز بحقيقة مآلات الداروينية قائلًا: هناك مجموعة كبيرة من الناس غير مرتاحة لقبول التطور؛ ﻷنه يؤدي إلى ما يعتبرونه فراغا أخلاقيا، حيث تفقد أفضل رؤاهم الأخلاقية كل أساس في عالم الطبيعة!

أجابه داوكنز بقوله: كل ما أستطيع أن أقوله هو أن الأمر شديد، وعلينا مواجهة ذلك.

 

وقد كان جون لوك -أحد أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في التاريخ الأوروبي- مدركا منذ قرون مآلات الإلحاد إن التزمه صاحبه كامل الالتزام؛ ﻷنه يطلق في الإنسان ذئبيَّته الشرسة، دون رادع؛ فكتب في رسالته الشهيرة "رسالة حول التسامح": الوعود والعهود والأيمان، التي هي روابط المجتمع البشري، لا يمكن أن تكون ملزمة للملحد. التلخص من الإيمان بالله، حتى لو كان في عالم الفكر وحده، يذيب كل شيء"

 

إن الفعل الذي يفعله الإنسان -مهما كان قبحه- لا يخرج في كليّته -في التصور الإلحادي- عن أن يكون حركة فيزيائية لا علاقة لها بالحسن والقبح؛ فقتل إنسان لآخر لا يخرج عن إدخال سكين بسرعة في بطن آخر، أو إطلاق رصاصة لتستقر في دماغ ثان.. أفعال لا معنى لإدانتها، كما أننا لا نُدين الأسد إذا أمسك بغزالة، وأنشب أنيابه في عنقها لشل حركتها، ثم انتهشها، ولا ندين القطة إذا اقتنصت فأرًا لغدائها.. لا فارق البتة.. إذا لم يكن الأسد والقطة ظالمين آثمين؛ فلم يُدان الإنسان في عالم بلا أخلاق، باعتراف الملاحدة؟!

 

في عالم إلحادي، ليست الأنانية القصوى رذيلة؛ إذ أننا لن نجد سببًا ماديًا لإدانة الرغبة في احتكار أسباب المتعة.. في عالم مظلم بلا خير ولا شرّ، لا يُمكن أن نجد أساسًا وجوديًا لإدانة من يروي عطشه لسعادته الشخصية على حساب غيره؛ إذ إن سعادة الآخرين أمر غير جدير بالاعتبار.. ولذلك صرّح داوكنز أنه من العسير -إلحاديا- أن تجد أساسًا لإدانة هتلر! ولما قال له الصحفي: ضمن نظراتك الإلحادية، لا أساس لإدانة الافتصاب أنه خطيئة، فإن إنكار هذا الفعل موقف اعتباطي، لم يجد داوكنز بدًا من موافقته.

 

إنه عالم متعاطف مع نيتشه في استخفافه بأخلاق الرحمة وإغاثة المكروثين؛ فكل مبادئ الأخلاق أكاذيب من صنع الخيال، وكل تحليلاته النفسية محض تزوير، وكل أشكال المنطق التي أقحمها الناس في مملكة الأكاذيب هذه لا تعدو أن تكون سفسطات.

 

الحقيقة الوحيدة هي الحياة الفعلية، وهي منافرة بطبعها للأخلاق المتسلطة عليها من الخارج، وللمثل العليا التي تدعونا إلى الإحسان إلى الضعفاء وإكرام المحتاجين. إن هذه المثل تفقر الحياة الحقيقة وتكاد تسلبها حيويّتها.

 

وتسير هذه الأخلاق المثالية بذلك عكس الانتخاب الطبيعي الذي لا يُبقي على الأرض غير ذاك الذي فاز عن جدارة بحق البقاء في معركة الحياة الملحمية؛ فلا تستبقي الحياة إلا ذاك القادر على التكيف والتطور، وأما العاجز والقاصر فمصيره الزوال. إن الشفقة بالضُّعفاء أشدّ القيم منافرة لطبيعة الغابة. "إن الشفقة فضيلة المومس" كما هي عبارة نيتشه.

 

كما ترفض الطبيعة منطق الأخلاق في المساواة بين الكائنات -في أي صورة من صور المساواة- ﻷن الطبيعة قائمة على التمييز والتفرقة وترتيب الأحياء رأسيًا لا أفقيا في باب القوة؛ فهم بين أعلى وأدنى منه، وأضعف الجميع..

 

كل ذلك حافز حيوي قوي مُتَمَاهٍ مع الوجود الطبيعي لإنكار أخلاق المثل، خاصة الرحمة والعفو والتكافل ونجدة المحتاج. فهل هناك داع متجاوز للطبيعة يدعو الملحد إلى أن يصنع أخلاقا لا طبيعية أو فوق طبيعية؟

 

الملحد المستسلم لفطرته؛ ذئب لأخيه الإنسان، والمعارض لفطرته الغابيّة، فاقد لأساس وجودي يقيم عليه أخلاق الفضيلة

 

في عالم الإلحاد الصادق مع أصوله؛ طلب البقاء هو القيمة الوحيدة، والصراع هو الآليّة، والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة.

 


 

المصدر:

د. سامي عامري، الإلحاد في مواجهة نفسه، ص127

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإلحاد #الداروينية
اقرأ أيضا
الذين يعيشون خارج العصر | مرابط
تفريغات ثقافة

الذين يعيشون خارج العصر


قد أكون أنا وقد تكون أنت من الذين يعيشون على هامش العصر أو على أبوابه أو داخل ساحاته دون أن يلجوا إلى قاعاته ودون أن يدركوا طبيعة تحدياته وعطاءاته ولذا فإن من المهم أن نستبين صفات الذين يعيشون خارج العصر مع بعض المقارنة مع صفات الذين يعيشون زمانهم بجدارة ووعي حتى نعرف على أي أرض نقف وإلى أي فريق ننحاز وهنا نوجز صفات الذين يعيشون خارج الواقع في ست نقاط

بقلم: د عبد الكريم بكار
171
عبقرية محمد الإدارية | مرابط
فكر مقالات

عبقرية محمد الإدارية


الناظر إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستشف الكثير من المحاور التي تنم عن عبقرية غير مسبوقة في التاريخ وعن عقلية فذة ومن الظلم أن نختزل سيرة الرسول في بعض المراحل المتعاقبة دون النظر إلى تفاصيل هذه المراحل التي تكشف لنا عن عبقرية النبي وفي هذا المقال يحدثنا عباس محمود العقاد عن عبقرية النبي في الجانب الإداري للمجتمع الإسلامي

بقلم: عباس محمود العقاد
1660
هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟ | مرابط
المرأة

هل الحجاب يتعارض مع أناقتي في المناسبات؟


التأنق والأناقة التي أفهمها تعني التزين ومواكبة الموضة والألوان والاتجاهات المنتشرة في الملبس فتلبس في الصيف كذا وتلبس في الشتاء كذا وتضع اكسسوارا بالصورة الفلانية وتلف الطرحة بالطريفة كذا وكذا .. كل هذه الأمور لا تلزم المسلمة في شيء ما دامت تخالف الركن الركين في زي المرأة المسلمة وهو: الستر.

بقلم: محمد حشمت
112
إشكالية الاختلاط: الاحتجاج بصلاة النساء خلف الرجال | مرابط
أباطيل وشبهات

إشكالية الاختلاط: الاحتجاج بصلاة النساء خلف الرجال


من ضمن الشبهات العجيبة التي يروجها العلمانيون لتبرير الاختلاط وتجويزه يقولون أن النساء كن يصلين خلف الرجال في العهد النبوي وهذا مدعاة للاختلاط ويبدو أن القوم مصرون على إحراج أنفسهم كل مرة ويظهرون جهلهم بنصوص الشرع وأحكام الدين وهذا أكبر دليل على أنهم يملكون ربع العلم والباقي يضيعون به عباد الله.

بقلم: قاسم اكحيلات
132
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
499
بلا وصاية | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

بلا وصاية


لفظ الوصاية أصبح من الألفاظ المنفرة عند كثير من الناس حتى أنك لو نصحت أحدهم بشيء أو أمرته بمعروف أن نهيته عن منكر يقول لك: أنت لست وصيا علي أو على الناس وتجاوز الأمر ووصل إلى بعض الأوامر الشرعية التي يرفضها الناس تحت نفس المبدأ وفي هذا المقال تحقيق وتمحيص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2072