قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس

قانون السببية وإيقاظ العقيدة الإلهية في النفس | مرابط

الكاتب: د محمد عبد الله دراز

2059 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) قانونا السببية والغائية

 

أشرنا إِلى أن ظاهرة التدين تستند في أصلها إِلى مبدأين مرتكزين في بداهة العقول، وهما قانونا «السببية والغائية»، ونبادر الآن فنكرر أن هذين القانونين متى فُهِما على كمالهما انتهيا إِلى أسمى العقائد الدينية: عقيدتي التوحيد والخلود؛ وأن عقائد الشرك والوثنية والفناء إِنما هي وليدةُ ضربٍ من الغفلة أو الكسل العقلي يقف بها في بعض الطريق.

 

أما قانون السببية فيقرر أن شيئًا من «الممكنات» (1) «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإِحداث شيء»؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئًا لا يملكه هو، كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عددٌ إِيجابي، فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سببٍ خارجي، وهذا السبب الخارجي إِن لم يكن موجودًا بنفسه احتاج إِلى غيره، فلا مفر من الانتهاء إِلى سببٍ ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب.

 

وأما قانون الغائية فمن موجبه أن كل نظام مركب متناسق مستقر لا يمكن أن يحدث عن غير قصد، وأن كل قصد لا بد أن يهدف إِلى غاية، وأن هذه الغاية إِذا لم تحقق إِلا مطلبًا جزئيًّا إِضافيًّا منقطعًا، تشوفت النفس من ورائها إِلى غاية أخرى.. حتى تنتهي إِلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات.

 

نعم، إِن طاقة البشر، وطبيعة المخلوق، أعجزُ من أن تُحصي مراحل الأسباب والغايات مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم ونهايته؛ ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء وغاياتها الأخيرة، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطواتٍ معدودةً إِلى الأمام أو إِلى الوراء، تاركةً ما بعد ذلك إِلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.

 

ولكن هذا اليأس الإِنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقينٌ إِجماليٌّ ينطوي كل عقل على الاعتراف به طوعًا أو كرهًا، وهو أنه مهما طالتْ سلسلةُ الأسباب الممكنة والغايات الجزئية، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية؛ فإِنه لا بد لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إِثبات شيءٍ آخرَ يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإِلا لَبقيت كل هذه الممكنات في طَيِّ الكتمان والعدم، -إِن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل- أو لَبقيت لغزًا وعبثًا غير معقول -إِن لم تكن لها غايةٌ تامةٌ تنقطع بها لجاجة النفس ويستقر مضطربها.

 

نقول: إِن وجود هذه الحقيقة الأولى والأخيرة ضرورةٌ عقليةٌ لا مناص من التسليم بها، ولا مجال لأحد أن يكابر فيها متى فكر قليلًا في الوضع الذي يئول إِليه إِنكارها، اللهم إِلا إِذا فرضناه كائنًا أخرق، لا يُذعن لقواعد المنطق والحساب، ولا يبالي أن يبطل كل شيء في الأذهان.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التعبير المشهور هو أن شيئًا لا يحدث من لا شيء، وقد أضفنا عبارة: «من الممكنات» تحديدًا للمجال الحقيقي الذي يُطبق فيه هذا المبدأ، ودفعًا للخطأ الذي يَنجم من أخذه على إِطلاقه؛ ذلك أن الأُمور «الضرورية الوجود» -ككون الكل أكبر من جزئه، وكون الشيء عين نفسه، وأن ضم الواحد إِلى الواحد ينشأ عنه اثنان وضم الصفر إِلى الصفر لا يخرج منه عدد إِيجابيٌّ، إِلى غير ذلك من أحكام قانون العينية- تحمل في طبيعة مفهومها سبب وجودها، فهي موجودة بنفسها لا بسبب خارجيٍّ، والأمور «المستحيلة»- ككون الجزء أكبر من كله، وكون الشيء غير نفسه أو عين غيره، إِلى أشباه ذلك من أحكام قانون التناقض - تحمل في نفسها سبب عدمها؛ فلا تقبل الوجود بنفسها ولا بغيرها، أما «الممكنات» التي تقبل الوجود والعدم ولا تقتضي طبيعتها واحدًا منها، فإِن وجودها إِنما يرد إِليها من سبب خارج عنها حتمًا؛ إِذ لو وُجِدَتْ بنفسها لكانت واجبة الوجود، وهو خلاف المفروض.

 

المصدر:

  1. د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص105
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
حول تكريم المرأة في الإسلام | مرابط
المرأة

حول تكريم المرأة في الإسلام


قل هو شرع الله والله لم ينزل شرعه على ذوقك! بل لا تؤمنين إلا إذا كان هواك تبعا لما جاء به محمد! لا تقل لها أن القيمة التي تود النسوية رفعك لها هي موجودة في الإسلام لا بل الإسلام هو أعلى قيمة عليك أن تحرصي عليها كي ترفعي لا أنك قيمة باهضة والإسلام والنسوية يتنافسان على الظفر باتباعك عبر الإغراء بمفهوم التكريم

بقلم: باسم بشينية
313
في أنماط القراءة ومسالك القراء | مرابط
فكر مقالات ثقافة

في أنماط القراءة ومسالك القراء


في هذا المقال يستعرض إبراهيم السكران أنماط الناس في القراءة والمطالعة ومساراتهم التي تغلب عليهم وتستتبع أساليب تعاملهم مع العلم ومن ذلك هذه الأنماط القرائية الخمسة: القراءة الملحية القراءة الوراقية القراءة المستهلكة القراءة التحصيلية القراءة البحثية

بقلم: إبراهيم السكران
2193
وظهر الدجال | مرابط
فكر

وظهر الدجال


بت أستشعر اليوم أكثر من أي وقت مضى حالة المجتمع الذي سيظهر فيه الدجال ويتلقى دعوته بالحفاوة والترحيب وكأني به يطوف بلاد العالم ويفرش له السجاد الأحمر باعتباره أحد أقطاب الإصلاح الاقتصادي والنهضة الحضارية. أشعر وكأن بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة في عالمنا الإسلامي البائس سوف يتصدرون المشهد ويقودون حملته المضللة بالتلبيس على العوام بطرائق شتى سيكون منها بلا شك مهرجانات الرحمة للجميع !!

بقلم: د. جمال الباشا
267
من أعمال الحملة الفرنسية: نشر السفور والتبرج والبغاء | مرابط
تاريخ اقتباسات وقطوف المرأة

من أعمال الحملة الفرنسية: نشر السفور والتبرج والبغاء


لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن.

بقلم: عبد الرحمن الجبرتي
561
فساد الدين | مرابط
اقتباسات وقطوف

فساد الدين


يقع فساد الدين من طريقين اثنين الأول يأتي من جهة الاعتقاد الخاطئ فهذا هو الأساس وبما أن الخلل قد أصابه فالطبع سيلزم عنه فساد في الدين والثاني هو العمل بما يخالف الحق مع العلم به وهنا مقتطف من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2129
مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي


تعتبر مقولة نجم الدين الطوفي الشهيرة: تقديم المصلحة على النص من أشهر المقالات الفقهية والفكرية فى هذا العصر لأنه تم توظيفها بمهارة لتكون بساطا يسير عليه أي تحريف معاصر يرغب في تخطي بعض النصوص الشرعية ومع الجهود العلمية الحثيثة في توضيح هذه القضية وبيان الشذوذ والخلل فيها إلا أن المقالة الطوفية ما تزال حاضرة في أي مشهد ثقافي يرغب في حذف بعض أحكام الشريعة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1486