الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص

الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2916 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

 

من أعظم أبواب الحيرة والارتياب وفقد اليقين وفقد التصديق في هذه الأيام مسألة راجت رواجا عظيما، بل أصبح للأسف بعض المنتسبين للعلم يروجها، وهي الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص.
 

تعطيل أحكام الشريعة باسم الخلاف

 

اليوم كلما ذكرت مسألة قالوا فيه خلاف.. كل ما ذكرت مسألة من أحكام المرأة قالوا والله فيه خلاف.. كل ما ذكرت مسألة يعني من أحكام الصلاة أحكام المعازف قالوا فيه خلاف.. غرت كثيرًا من الناس.. هذه المسألة فيها خلاف فيه خلاف فيه خلاف.. الله أنزل لنا الكتاب.. هذا الوحي حتى نحكّمه في الخلافات.. يقول لك فيه خلاف!

تعطيل كثير من الأحكام الشرعية باسم الخلاف، تعطيل الإنكار والصدع بالحق والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم الخلاف! يا أخي انكسرت كثير من العزائم باسم الخلاف.. كان شباب حريصون على الجماعة سمعوا ان فيه خلاف تهشمت هممهم للذهاب للمساجد.. ولذلك الله يقول "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"  
 
الان الذي يجري عكس هذه الآية.. تقول قال الله .. يقول فيه خلاف.. قال رسول الله .. يقول فيه خلاف. الله يقول " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" .. الله يريد منا أن هذه الامور التي نختلف فيها نحكّم كتاب الله فيها، فنتعبد الله بتحكيم الوحي في الخلافات.. الآن يحكم الخلاف على كلام الله!
 
يقول الحق تبارك وتعالى "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" الآن وما حكم فيه الله فمرده إلى الخلاف.. عكس الآية تماما.. "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" طبعا الكلام في مسائل القطع ومسائل الظن الغالب ومسائل الخلاف وليس في مسائل الاجتهاد التي يتعذر فيها الجزم أو معرفة الأدلة إما لغيابها أو لشدة الاحتمال فيها أو لقوة الخلاف فيها بين السلف
 
الكلام الآن عن مسائل كثيرة بعضها قطعية وبعضها ظن غالب وبعضها من مسائل الخلاف التي فيها نص، ومع ذلك تُرد إلى الخلاف ويُعطل النص وبكل جمود وبرود يفقد الإنسان هذا الاحتكام إلى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله

 

نماذج من كلام العلماء


شيخ الإسلام ابن تيمية مرة كان يتعرض لمسألة في الفتاوى، فألزم المخالف بلازم: بهذا القول يلزم عليه ألا يكون حراما إلا ما أُجمع على تحريمه، وكل ما اختُلف في تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لإجماع الأمة ومعلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام  
 
ليس يقرر المسألة فقط.. لا.. بل يجعلها لازم، يعني يلزم على كلامكم أن يكون الخلاف مباحا.. جعلها دائرات، أي يؤول القول إلى كون المُختَلف فيه مباحا وأنه لا يحرم إلا ما أُجمع عليه.. هذا لازم يبين بطلان قولكم.  لم ؟ لأنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن لا قائل من أهل العلم أن ما اختُلف فيه يكون حلالا..
 
مرة شخص كنت أتناقش معه في مسألة، فقال لي: هذه فيها خلاف. طبعا أنا ما كنت معني بتقرير الخلافات.. قال: قلي بصراحة، هذه فيها خلاف؟ قلت: نعم فيها خلاف. قال: أي مسألة فيها خلاف فليس دينا بيّنًا.. طيب إيش بقي؟ تستطيع أن تخلق لنفسك دينًا مليئًا بكل الشهوات بشذوذات الخلافات  
 
المشكلة أن هذه المسألة الآن شائعة جدًا.. في موضع آخر ناقش الإمام ابن تيمية مسألة ثم تعرض إلى إشارة احتُج فيها بالخلاف.. فقال: تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يُعلق الشارع بها الأحكام، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم  
 
يعني لا يكون الخلاف علة.. لا تقول هذه المسألة جائزة لأن فيها خلاف! .. وكما علل أن ذلك -اي الخلاف- حادث بعد النبي .. أي خلاف العلماء هذا جاء بعد النبي كيف أحتج به وهو جاء بعد النبي؟ يعني هذا لو كان حديثا جاء بعد النبي لكان باطلا، فكيف وهو خلاف جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر.. هذا الوصف الحادث بعد النبي الآن يعلق به كثير من الناس التمسك بالنصوص ويردونها إلى هذا الخلاف.
 
الإمام ابن حزم أيضًا في كتابه المعروف "الإحكام في أصول الأحكام" كان مرة تعرض لهذه القضية فقال: ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط ويترك ما اختلفوا فيه مما قد جاءت به النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة
 
هذه المسألة الآن فيها لازم على هؤلاء الذين يقولون ما نأخذ إلا بمسائل الإجماع.. فهذا القول نفسه باطل بالإجماع فيلزمك أن تتركه.. تدور عليك مسألة.. يقول: هذه  مسائل فيها خلاف أنا ما آخذ بيها، أنا ما آخذ إلا بما أجمع عليه العلماء .. لم؟ والله الإجماع حجة.. طيب هذه القاعدة الآن التي تعمل بها أنت باطلة بالإجماع.. اتركها الآن.. دخلها في مسائل الإجماع.. واعمل بالنصوص.
 
الإمام ابن عبد البر، في كتابه الذي تكلم فيه عن آداب وأخلاق أهل العلم، وهو "جامع بيان العلم وفضله" تعرض لهذه المسألة فقال: الاختلاف ليس حجة عند أحد علمته من فقهاء الأمصار..  
 
يعني ما أعرف أن أحدًا يحتج بالخلاف، بل أنا قرأت مقالات لبعض المنتسبين إلى العلم والفتوى في هذا البلد يحاول أن يؤصل فيها أن مسائل الخلاف لا يُشدد فيها وأن الإنسان يأخذ فيها بما أراد هذا يذكرنا بمسألة ذكرها أحد الكتب عن تاريخ المصلحين.. ذكر فيها المراغي.. أحد مشائخ الأزهر.. كانوا يريدون أن يقننون .. يأخذون من الفقه الإسلامي.. فقالوا له نريد أن نأخذ قوانين من الفقه الإسلامي.. قال أنتم قننوها بالمواد الوضعية وكل مسألة أنا مستعد لأن أخرج لكم فيها قولا فقهيًا.. أصل الاستمداد ليس استمدادا من كلام الله والرسول ولكنه مجرد تغليف بهذه الخلافيات.  
 
مثل من يقول القوانين الوضعية كلها تمشي بالخلاف، انظر أين يبلغ الاحتجاج بموضوع الاختلاف، هذه فتنة من فتن العصر اليوم الاحتجاج بالخلاف
 
ابن عبد البر يقول: الاختلاف ليس حجة عند أحد علمته من فقهاء الأمصار.
 

الشاطبي وشيخه


من أكثر من عُني بمسائل الخلاف: الإمام الشاطبي في الموافقات.. لم؟ لأنه ابتُلي اجتماعيا أصلا بهذه المسألة.. كان له شيخ اسمه أبو سعيد بن لب، كانوا مرة اختلفوا في مسألة من مسائل الطلاق .. فقال أبو سعيد هذه فيها خلاف .. أراد أن يُجري المسألة على الخلاف.. الشاطبي لما ارتوى من فقه الشريعة والاطلاع على نصوص وكلام السلف أدرك أن الاحتجاج بالخلاف يضاد الشريعة، وبناه على قاعدة الهوى.
 
قال أن الشارع ملأ القرآن بالتحذير من الهوى مثلما قال الحق تبارك وتعالى " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" ظاهر هذه الآيات التي جمعها، قال أن الشارع قاصد إلى مضادة الهوى، وذكر هذه الآيات "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنك إذا لمن الظالمين" "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن " ومثل هذه الآيات
 
قال اتباع الخلاف هو في حقيقته طريق إلى اتباع الهوى الذي جاءت الشريعة بمضادته .. وأصل تأصيلات كثيرة.. طوّل هذه القاعدة. ..  
 
كان في الحقيقة الحاضر الغائب في هذه الفصول، واضح إنه شيخه أبو سعيد بن لب، واضح إنه كان يريد أن ينقد هذه المسألة يعني هو اهتم بمسألتين، في الاعتصام كان شيخه يقسم البدع إلى الأقسام الخمسة فنقضها في الاعتصام نقدًا عظيما وأن البدع لا تكون بدعة حسنة وبدعة سيئة ولا تقع عليها هذه التقسيمات.. وفي الموافقات نقد هذه القاعدة التي هي الاحتجاج بالخلاف.
 
ومن أجمل عباراته أنه قال في الموافقات "وقد زاد الأمر في هذه الأعصار على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة" هذا في زمانه هو! قال قد زاد الأمر على قدر الكفاية.. هذا ذكره في الموافقات، وقرر تقريرا عظيمًا .. من أجمل المواضع في نقض هذه الحجة ما ذكره الإمام الشاطبي في الموافقات.

 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
العنصرية الأمريكية ضد العرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

العنصرية الأمريكية ضد العرب


مقتطف من كتاب الحروب الهمجية يتحدث فيه الكاتب عن الرؤية الأمريكية للعرب والتي تقوم على العنصرية أو التعصب إذ يعد هذا هو المحرك الأبرز في التعامل مع كافة الأحداث ومن هنا توصف أعمال العنف التي يرتكبها الأمريكان أو إسرائيل على أنها دفاع عن النفس بينما أي عنف يرتكبه العرب يقع تحت وصف الإرهاب

بقلم: ستيفن سالايتا
539
كسوف الشمس وإثبات النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

كسوف الشمس وإثبات النبوة


أريدك أن تتخيل معي دجالا كذابا يدعي أنه مرسل من عند الله ويموت ولده ويوم موت ولده تنكسف الشمس وحين تنكسف الشمس يقول الناس: إن الشمس انكسفت من أجل ولده.. أريد منك أن تقلب هذا الأمر ظهرا لبطن وبطنا لظهر وترى كيف سيتصرف هذا الدجال؟ أعمل عقلك كثيرا في هذه المسألة ور كيف سيتصرف دجال وضع في هذه الفرصة الذهبية للترويج لنفسه!

بقلم: د. حسام الدين حامد
249
الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي


من يعترضون على انتقاد الداروينية أو نظرية التطور لانه لا يجوز مخالفة الإجماع العلمي ويقارنون بينه وبين الإجماع الشرعي الذي لا تجوز مخالفته يقعون في العديد من المغالطات وباختصار يمكن الجواب عليهم من وجوه.. يوضحها الدكتور هشام عزمي في هذا المقال الموجز.

بقلم: هشام عزمي
474
من الأمور التي كرهها الله لنا | مرابط
تفريغات

من الأمور التي كرهها الله لنا


في الشطر الثاني من الحديث يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكره لنا أن تشغل أوقاتنا بقيل وقال قال فلان كذا وقالت فلانة كذا وفلان روى وفلانة روت ونتناقل الأحاديث نشغل بها الساعات الطويلة فنبتعد عن القضايا المهمة بالحديث في سفاسف الأمور كما هو حادث في هذه الأيام أخبار تنقل من المشرق والمغرب لا ندري منها الصحيح من الباطل والقوي من السقيم نشغل بها أنفسنا ونعيش في دوامة لا ندري ما الصحيح منها وما غير الصحيح فنتناقل الأحاديث والأقوال نشغل بها أنفسنا

بقلم: عمر الأشقر
671
من علامات السعادة والفلاح | مرابط
اقتباسات وقطوف

من علامات السعادة والفلاح


من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في خوفه وحذره وكلما زيد في عمره نقص من حرصه وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم

بقلم: ابن القيم
817
تجريم التعظيم | مرابط
مقالات

تجريم التعظيم


الغضب لله أصبح في مجتمعات المسلمين مجرما تجرمه القوانين بل ويجرمه كثير من النخب والرموز الدعوية والهيئات الإسلامية حتى صارت ثقافة تجريم التعظيم شائعة في المسلمين وساعد في نشر هذه الثقافة وجود ممارسات سيئة من بعض الجماعات الإسلامية فكردة فعل عليها هرب الناس من رمضاء الغلو إلى نار التهاون في حق الله وحق رسوله وحق دينه وهذا التهاون لا يقل خطورة أبدا عن خطورة الغلو

بقلم: إياد قنيبي
608