الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص

الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

3083 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

 

 

من أعظم أبواب الحيرة والارتياب وفقد اليقين وفقد التصديق في هذه الأيام مسألة راجت رواجا عظيما، بل أصبح للأسف بعض المنتسبين للعلم يروجها، وهي الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص.
 

تعطيل أحكام الشريعة باسم الخلاف

 

اليوم كلما ذكرت مسألة قالوا فيه خلاف.. كل ما ذكرت مسألة من أحكام المرأة قالوا والله فيه خلاف.. كل ما ذكرت مسألة يعني من أحكام الصلاة أحكام المعازف قالوا فيه خلاف.. غرت كثيرًا من الناس.. هذه المسألة فيها خلاف فيه خلاف فيه خلاف.. الله أنزل لنا الكتاب.. هذا الوحي حتى نحكّمه في الخلافات.. يقول لك فيه خلاف!

تعطيل كثير من الأحكام الشرعية باسم الخلاف، تعطيل الإنكار والصدع بالحق والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باسم الخلاف! يا أخي انكسرت كثير من العزائم باسم الخلاف.. كان شباب حريصون على الجماعة سمعوا ان فيه خلاف تهشمت هممهم للذهاب للمساجد.. ولذلك الله يقول "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"  
 
الان الذي يجري عكس هذه الآية.. تقول قال الله .. يقول فيه خلاف.. قال رسول الله .. يقول فيه خلاف. الله يقول " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" .. الله يريد منا أن هذه الامور التي نختلف فيها نحكّم كتاب الله فيها، فنتعبد الله بتحكيم الوحي في الخلافات.. الآن يحكم الخلاف على كلام الله!
 
يقول الحق تبارك وتعالى "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" الآن وما حكم فيه الله فمرده إلى الخلاف.. عكس الآية تماما.. "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" طبعا الكلام في مسائل القطع ومسائل الظن الغالب ومسائل الخلاف وليس في مسائل الاجتهاد التي يتعذر فيها الجزم أو معرفة الأدلة إما لغيابها أو لشدة الاحتمال فيها أو لقوة الخلاف فيها بين السلف
 
الكلام الآن عن مسائل كثيرة بعضها قطعية وبعضها ظن غالب وبعضها من مسائل الخلاف التي فيها نص، ومع ذلك تُرد إلى الخلاف ويُعطل النص وبكل جمود وبرود يفقد الإنسان هذا الاحتكام إلى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله

 

نماذج من كلام العلماء


شيخ الإسلام ابن تيمية مرة كان يتعرض لمسألة في الفتاوى، فألزم المخالف بلازم: بهذا القول يلزم عليه ألا يكون حراما إلا ما أُجمع على تحريمه، وكل ما اختُلف في تحريمه يكون حلالا وهذا مخالف لإجماع الأمة ومعلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام  
 
ليس يقرر المسألة فقط.. لا.. بل يجعلها لازم، يعني يلزم على كلامكم أن يكون الخلاف مباحا.. جعلها دائرات، أي يؤول القول إلى كون المُختَلف فيه مباحا وأنه لا يحرم إلا ما أُجمع عليه.. هذا لازم يبين بطلان قولكم.  لم ؟ لأنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن لا قائل من أهل العلم أن ما اختُلف فيه يكون حلالا..
 
مرة شخص كنت أتناقش معه في مسألة، فقال لي: هذه فيها خلاف. طبعا أنا ما كنت معني بتقرير الخلافات.. قال: قلي بصراحة، هذه فيها خلاف؟ قلت: نعم فيها خلاف. قال: أي مسألة فيها خلاف فليس دينا بيّنًا.. طيب إيش بقي؟ تستطيع أن تخلق لنفسك دينًا مليئًا بكل الشهوات بشذوذات الخلافات  
 
المشكلة أن هذه المسألة الآن شائعة جدًا.. في موضع آخر ناقش الإمام ابن تيمية مسألة ثم تعرض إلى إشارة احتُج فيها بالخلاف.. فقال: تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يُعلق الشارع بها الأحكام، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم  
 
يعني لا يكون الخلاف علة.. لا تقول هذه المسألة جائزة لأن فيها خلاف! .. وكما علل أن ذلك -اي الخلاف- حادث بعد النبي .. أي خلاف العلماء هذا جاء بعد النبي كيف أحتج به وهو جاء بعد النبي؟ يعني هذا لو كان حديثا جاء بعد النبي لكان باطلا، فكيف وهو خلاف جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر.. هذا الوصف الحادث بعد النبي الآن يعلق به كثير من الناس التمسك بالنصوص ويردونها إلى هذا الخلاف.
 
الإمام ابن حزم أيضًا في كتابه المعروف "الإحكام في أصول الأحكام" كان مرة تعرض لهذه القضية فقال: ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما أجمعت عليه الأمة فقط ويترك ما اختلفوا فيه مما قد جاءت به النصوص، لكان فاسقًا بإجماع الأمة
 
هذه المسألة الآن فيها لازم على هؤلاء الذين يقولون ما نأخذ إلا بمسائل الإجماع.. فهذا القول نفسه باطل بالإجماع فيلزمك أن تتركه.. تدور عليك مسألة.. يقول: هذه  مسائل فيها خلاف أنا ما آخذ بيها، أنا ما آخذ إلا بما أجمع عليه العلماء .. لم؟ والله الإجماع حجة.. طيب هذه القاعدة الآن التي تعمل بها أنت باطلة بالإجماع.. اتركها الآن.. دخلها في مسائل الإجماع.. واعمل بالنصوص.
 
الإمام ابن عبد البر، في كتابه الذي تكلم فيه عن آداب وأخلاق أهل العلم، وهو "جامع بيان العلم وفضله" تعرض لهذه المسألة فقال: الاختلاف ليس حجة عند أحد علمته من فقهاء الأمصار..  
 
يعني ما أعرف أن أحدًا يحتج بالخلاف، بل أنا قرأت مقالات لبعض المنتسبين إلى العلم والفتوى في هذا البلد يحاول أن يؤصل فيها أن مسائل الخلاف لا يُشدد فيها وأن الإنسان يأخذ فيها بما أراد هذا يذكرنا بمسألة ذكرها أحد الكتب عن تاريخ المصلحين.. ذكر فيها المراغي.. أحد مشائخ الأزهر.. كانوا يريدون أن يقننون .. يأخذون من الفقه الإسلامي.. فقالوا له نريد أن نأخذ قوانين من الفقه الإسلامي.. قال أنتم قننوها بالمواد الوضعية وكل مسألة أنا مستعد لأن أخرج لكم فيها قولا فقهيًا.. أصل الاستمداد ليس استمدادا من كلام الله والرسول ولكنه مجرد تغليف بهذه الخلافيات.  
 
مثل من يقول القوانين الوضعية كلها تمشي بالخلاف، انظر أين يبلغ الاحتجاج بموضوع الاختلاف، هذه فتنة من فتن العصر اليوم الاحتجاج بالخلاف
 
ابن عبد البر يقول: الاختلاف ليس حجة عند أحد علمته من فقهاء الأمصار.
 

الشاطبي وشيخه


من أكثر من عُني بمسائل الخلاف: الإمام الشاطبي في الموافقات.. لم؟ لأنه ابتُلي اجتماعيا أصلا بهذه المسألة.. كان له شيخ اسمه أبو سعيد بن لب، كانوا مرة اختلفوا في مسألة من مسائل الطلاق .. فقال أبو سعيد هذه فيها خلاف .. أراد أن يُجري المسألة على الخلاف.. الشاطبي لما ارتوى من فقه الشريعة والاطلاع على نصوص وكلام السلف أدرك أن الاحتجاج بالخلاف يضاد الشريعة، وبناه على قاعدة الهوى.
 
قال أن الشارع ملأ القرآن بالتحذير من الهوى مثلما قال الحق تبارك وتعالى " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" ظاهر هذه الآيات التي جمعها، قال أن الشارع قاصد إلى مضادة الهوى، وذكر هذه الآيات "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنك إذا لمن الظالمين" "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن " ومثل هذه الآيات
 
قال اتباع الخلاف هو في حقيقته طريق إلى اتباع الهوى الذي جاءت الشريعة بمضادته .. وأصل تأصيلات كثيرة.. طوّل هذه القاعدة. ..  
 
كان في الحقيقة الحاضر الغائب في هذه الفصول، واضح إنه شيخه أبو سعيد بن لب، واضح إنه كان يريد أن ينقد هذه المسألة يعني هو اهتم بمسألتين، في الاعتصام كان شيخه يقسم البدع إلى الأقسام الخمسة فنقضها في الاعتصام نقدًا عظيما وأن البدع لا تكون بدعة حسنة وبدعة سيئة ولا تقع عليها هذه التقسيمات.. وفي الموافقات نقد هذه القاعدة التي هي الاحتجاج بالخلاف.
 
ومن أجمل عباراته أنه قال في الموافقات "وقد زاد الأمر في هذه الأعصار على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة" هذا في زمانه هو! قال قد زاد الأمر على قدر الكفاية.. هذا ذكره في الموافقات، وقرر تقريرا عظيمًا .. من أجمل المواضع في نقض هذه الحجة ما ذكره الإمام الشاطبي في الموافقات.

 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أدعو فلا يستجاب لي | مرابط
أباطيل وشبهات

أدعو فلا يستجاب لي


يقول أحد المشككين: أدعو الله كثيرا ولكن لا يستجاب لي والمسلمون يدعون على اليهود المحتلين منذ سنين عديدة ولكنهم لا زالوا هناك ألا يعتبر ذلك شكا في دين الإسلام أو حتى في وجود الله لماذا لا يستجيب الله للدعاء هذه الشبهة رائجة جدا في الأوساط الثقافية وفي الساحات العربية وبين يديكم الرد عليها

بقلم: موقع هداية الملحدين
1168
رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى والدته | مرابط
اقتباسات وقطوف

رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى والدته


تعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا ولسنا - والله - مختارين للبعد عنكم ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ولكن الغائب عذره معه وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم - ولله الحمد - ما تختارون الساعة إلا ذلك ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم وادعوا لنا بالخيرة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
395
الإنسان والشيء | مرابط
فكر مقالات

الإنسان والشيء


نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمسة إذ تهيمن عليه رؤية مادية للكون ولنضرب مثلا بالتي شيرت t-shirt الذي يرتديه أي طفل أو رجل إن الرداء الذي كان يوظف في الماضي لستر عورة الإنسان ولوقايته من الحر والبرد وربما للتعبير عن الهوية قد وظف في حالة التي شيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة المادة ثم توظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا على سبيل المثال وهي عملية توظيف تفقد المرء هويته وتحيده بحيث يصبح منتجا وبائعا ومس...

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1808
السفر للخارج للتعليم | مرابط
مقالات

السفر للخارج للتعليم


في الحقيقة لا يوجد مانع بين التعليم وبين الآخرة ولكن إذا كان هناك تعارض بين التعليم الدنيوي والصلاح والاستقامة فطبيعي سنقدم الاستقامة والصلاح. وإذا كان ظني بأولادي حسن وهم على دين وخلق فالعاقل لا يرمي بهم في موطن يبيح الزنا والخمر والربا ولحم الخنزير واللواط وغيره ثم أقول بفضل الله أولادي متربيين تربية كويسة!!

بقلم: محمد سعد الأزهري
453
الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف

الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان


الابتلاء في هذه الحياة مثل الكأس وكل الناس شارب منه ولا بد لكنه يتفاوت من شخص إلى آخر حسب قوة إيمانه ويقينه وحقيقة نفسه التي يخرجها الله بهذه الامتحانات وهذا من ضمن أسباب إشكالية وجود الشر التي أثارها الكثير من الفلاسفة بين يديكم مقتطف يعالج فيه الكاتب هذه المسألة

بقلم: م أحمد حسن
669
قاعدة الجزاء والحساب ج1 | مرابط
تفريغات

قاعدة الجزاء والحساب ج1


إن الله تبارك وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما لما له من نتائج وخيمة وعواقب أليمة وكان ينبغي لأولئك الذين يظلمون العباد ويسعون في الأرض الفساد أن يتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الظلمة وهنيئا لذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بحب الله فهو يعلم أن هدايته بيد الله وأن رزقه سيأتي إليه رضي الطواغيت أم سخطوا لأن الله هو الذي كتبه

بقلم: عمر الأشقر
851