التحدي الأعظم ج1

التحدي الأعظم ج1 | مرابط

الكاتب: موقع هداية الملحدين

1434 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي، وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل، سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته.. إلخ. وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر، بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)"، ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار، والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غالبا على اكتشافات علماء غير مسلمين!

لكننا لن نتطرق الآن لهذا النوع من المظاهر الإعجازية، فقد تحدثنا عنها في موضوع آخر في هذا الموقع، وإنما سنتناول تحديا إعجازيا عظيما آخر، وهو الوارد في هاتين الآيتين من سورة البقرة:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

 

بين افتراضين

يدور المنكرون للوحي والنبوة بشكل عام بين افتراضين لا ثالث لهما: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذاب يدعي النبوة، فهو يعلم أنه ليس بنبي ولكنه يخادع الناس، وإما أنه يعتقد في قرارة نفسه بأنه نبي، فهو يدعو الناس بصدق لكنه يتوهم النبوة.

ورغم وجود دعاوى واتهامات متعددة يلقيها الكفار قديما وحديثا لنفي صحة الرسالة كاتهامه بالسحر والجنون وتأليف الشعر.. الخ، لكنها كلها تصب في هذين الافتراضين. فإذا انتفى هذان الافتراضان فإن التهمة تسقط بطبيعة الحال.

ومن الطريف أن المتأمل في السيرة سيجد أحداثا تنفي كلا الافتراضين معا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقفه صلى الله عليه وسلم من حادثة الكسوف وكذلك نزول سورة المسد.

ومهما بلغت ثقة المخادع في نفسه وفي ذكائه فإنه لن يثق في أن تخلو الأجيال البشرية في المستقبل من أشخاص قد يفوقونه في الذكاء والقدرة. فكيف ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- لو كان مخادعا- أنه لن يأتي من يفوقه في القدرة على الإتيان بسورة مثل سور القرآن؟ خصوصا أن هذا التحدي مفتوح لا يقيده زمان ولا مكان! بل إن المخادع كلما ازداد ذكاءً ازداد حيطة وحرصا على أن لا يضع مصيره رهن المستقبل المجهول.

أما الملحد الذي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واهما بالنبوة فصدر عنه هذا التحدي، فالزمن يرد عليه! لماذا ظل هذا التحدي من شخص واهم قائما كل هذه القرون، مع كثرة الأعداء الذين يسعون لإسقاطه؟

 

صراحة التحدي

ما معنى أن ينكر الملحد الإعجاز القرآني؟ المعنى بكل بساطة هو أن القرآن نص بشري يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. هذا هو مقتضى الإنكار. لأنه إذا كان معجزا فلن يستطيع أحد الإتيان بمثله، وبالتالي لو أتى أحد بمثله لم يكن معجزا.. البناء المنطقي لهذا التحدي بسيط للغاية ولا يحتاج إلى عبقرية أو مستوى عال على مقياس الذكاء!

 

القرآن بات متواترا

قد يحتج الملحد بأن عدم الإتيان بسورة من مثله ليس مبنيا على استحالة ذلك وإنما هو مبني على أن القرآن بات معروفا ومتواترا، ولهذا يصعب الإتيان بنص متواتر بين المسلمين مثله! لكنه ينسى أن سورة البقرة التي حوت هذه الآية نزلت أصلا في بداية العهد المدني، وقبل انتشار الإسلام، أي أن الكثير من العرب الأقحاح كانوا حينها كفارا لا يؤمنون به، ومثلهم يهود المدينة. بل إن الكفار من أعداء الإسلام كانوا أضعاف عدد المسلمين، وكان المسلمون أقلية، فلماذا لم يستجب الكفار الذين لم تكن تنقصهم البلاغة والبيان لهذا التحدي ليأتوا بسورة واحدة فقط في مجتمعهم يتداولونها ويتواترونها؟ نفس المجتمع ونفس الجنس ونفس اللغة.. فالشروط التي كانت متحققة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا متحققة لهم..

 

التحدي وجودي

هذا التحدي ليس مجرد تحد عابر.. بل إنه تحد وجودي، أي أن صحة النبوة والدين كلها قائمة على الإتيان بسورة من مثله! فلو أتى أي مخلوق بسورة واحدة، كسورة الكوثر مثلا، تتكون من ثلاث آيات لا يزيد مجموع حروفها عن 42 حرفا، فإن الإسلام سينهار تماما.. وهنا تتجلى عظمة هذا التحدي، فلا شك أنه كلما كان شرط التحدي سهلا وكانت نتيجته في الوقت نفسه مصيرية فإن قوة التحدي وعظمته تكون أبلغ. ليس هذا فقط، وإنما هو تحد مفتوح لكل مخلوق على وجه الأرض وقائم إلى الأبد.

 

الجزء وليس الكل

عندما كان المشركون واليهود في المدينة يهزؤون بالنبوة وينكرون أن القرآن وحي من الله تعالى، جاءهم هذا التحدي ليس للمطالبة بقرآن مثله، وإنما للإتيان بسورة واحدة، إمعانا في الإعجاز والتحدي، وكما ذكرنا فإن سورة الكوثر تتكون من 42 حرفا، بينما عدد أحرف القرآن هو 323671، أي أن القرآن أكثر من سبعة آلاف ضعف مما عجزوا عن الإتيان به. ولا شك أن هذه مبالغة في التحدي.

 

اطلبوا العون

لم يكتف الله تعالى بتحدي الكفار واليهود أن يأتوا بسورة من مثله، فقد يعجزون هم ثم يدّعون بأن هناك من يستطيع ذلك غيرهم.. ولهذا طلب منهم القرآن أن يدعوا شركاؤهم ليعينوهم، بل أمعن بالتحدي في آية أخرى قائلا "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88]. ولا شك أنك عندما تتحدى شخصا للقيام بعمل ما، ثم تدعوه للاستعانة بكل أحد، فإن هذا التحدي يكون مضاعفا، والاستعانة بحد ذاتها هي تحد آخر.

 

إنهم بسطاء

عندما يقول الملحد إن القرآن ليس فيه ما يستحق التحدي، ولكن الناس بسطاء فصدقوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبأن القرآن وحي من الله، فإننا نجيبه بأن أمثال هؤلاء "الناس البسطاء" موجودون في كل زمان ومكان، أي أن الظروف التي يقوم عليها التحدي هي ظروف واحدة، والتحدي لازال قائما، فشمّر عن ساعديك واستفد من نسبة الذكاء (IQ) لديك، وقم بدورك في إقناع "الناس البسطاء" بسورة من مثله حتى تتمكن من القضاء على الإسلام.. لا تكن منافقا يدعي أن القرآن ليس معجزا وهو يعيش هذا الإعجاز ليلا ونهارا

 

التحدي مشهور

إن هذا التحدي ليس تحديا طبيعيا! هذا التحدي مشهور جدا، يشهده المليارات من البشر.. ولك أن تتخيل هذه المليارات وهم ينتظرون من يخرج لهم ويدق على صدره ويأتي بسورة من مثله! أليس في هذا العرض غاية الإغراء؟ ألا يستحق المحاولة أمام هذه المليارات من البشر؟

 

حركة مكشوفة

لا شك أن هناك محاولات قليلة جدا وقعت عبر التاريخ، وهي محاولات مضحكة يتندر بها الناس، بل إنها أصبحت من دلائل الكذب كما في قرآن مسيلمة "يَا ضِفْدَعُ بِنْتُ ضِفْدَعِينَ، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، نِصْفُكِ فِي المَاءِ وَنِصْفُكِ فِي الطين"، حتى صار يعرف باسم "مسيلمة الكذاب"، فتأمل الفرق بين القرآن الذي هو من دلائل النبوة وبين كلام مسيلمة الذي بات من علامات الكذب.

لقد كان مسيلمة الكذاب يحاول، لكنه على كذبه أكثر صدقا من بعض المحاولات التي تقوم على النصب والتدليس، حيث قام بعض المنصرين بما يسمى "التّناصّ" (Intertextuality)، وذلك باستخدام الألفاظ القرآنية نفسها ليركب منها جملا جديدة، فتبدو وكأنها آيات، لكن التلاعب واضح فيها، ويمكن لأي مسلم أن يكشفها. وهذا بالطبع تحريف للآيات وسرقة لألفاظها وليس إتيانا بمثلها، بل يدل هذا السلوك على العجز عن مقابلة التحدي بشرف، فعندما تنص الآية على "سورة من مثله" فإن المثلية هنا تقتضي الإتيان بشيء جديد، فسبحان الله الذي جعل مجرد المحاولة دليلا على العجز!

 

الشعور بالعجز

مهما حاول الملحد تبرير عدم قدرته على الاستجابة لهذا التحدي، واختلاق الأعذار، فهو يظل واهنا يغمره الشعور بالعجز، وتظل هذه الآية قائمة شامخة وباقية إلى الأبد، والتحدي قائم لا يخفى على أحد.

 


 

المصدر:

موقع هداية الملحدين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحدي-القرآن
اقرأ أيضا
هوان الذنوب بتكرارها | مرابط
اقتباسات وقطوف

هوان الذنوب بتكرارها


أحيانا ترى الناس تستعظم ذنبا من الذنوب ويتخذون مواقف صارمة تجاه فاعله بينما هناك ذنوب أخرى أكبر وأعظم عند الله تعالى ولكن الناس لا يتخذون تجاهها نفس الموقف وفي هذا المقتطف يحلل أبو حامد الغزالي هذه الظاهرة ويرجعها إلى الإلف فما اعتاد الناس على رؤيته يسقط وقعه في قلوبهم على عكس الذنوب التي لم يعتدها الناس ولم تنتشر بينهم

بقلم: أبو حامد الغزالي
2063
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1419
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
365
صدق المرسلين | مرابط
اقتباسات وقطوف

صدق المرسلين


مقتطف من كتاب درء تعارض العقل مع النقل لشيخ الإسلام ابن تيمية يشير فيه إلى استحالة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء من أهل الكتاب ولكن التشابه فيما أخبر به الرسول وأي رسول قبله يوحي بأن المرسل واحد ويدل على صدق المرسلين وهذا ما ينكره أهل الكتاب

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2500
ثقلاء على شفير البرزخ | مرابط
فكر مقالات

ثقلاء على شفير البرزخ


من المظاهر الأليمة التي بدت ملحوظة بعض الشيء هذه الأيام أن ترى الشخص يتبع الجنازة من أقاربه أو معارفه ويقف في زحام الناس في المقبرة أو متجافيا على مرمى خطوات يطل عليهم ثم يتجاذب مع صاحب له تعليقات الدعابة والهزل بل ربما استدعى من ذاكرته نوادر يتفكه بها طبع كلما رأيت هذا المشهد السمج انهمر على ذاكرتي حديث علي بن أبي طالب أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم- في جنازة فقعد وقعدوا حوله ونكس النبي صلى الله عليه وسلم- وقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة

بقلم: إبراهيم السكران
851
حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني


ثم ورث هموم الآخرة الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم وتتبع أحوالهم ومن ذلك أن عمر قال لأصحابه يوما: تمنوا فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله عز وجل فقال: تمنوا فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق بهثم قال: تمنوا قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
1536