التحدي الأعظم ج1

التحدي الأعظم ج1 | مرابط

الكاتب: موقع هداية الملحدين

1329 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي، وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل، سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته.. إلخ. وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر، بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)"، ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار، والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غالبا على اكتشافات علماء غير مسلمين!

لكننا لن نتطرق الآن لهذا النوع من المظاهر الإعجازية، فقد تحدثنا عنها في موضوع آخر في هذا الموقع، وإنما سنتناول تحديا إعجازيا عظيما آخر، وهو الوارد في هاتين الآيتين من سورة البقرة:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

 

بين افتراضين

يدور المنكرون للوحي والنبوة بشكل عام بين افتراضين لا ثالث لهما: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذاب يدعي النبوة، فهو يعلم أنه ليس بنبي ولكنه يخادع الناس، وإما أنه يعتقد في قرارة نفسه بأنه نبي، فهو يدعو الناس بصدق لكنه يتوهم النبوة.

ورغم وجود دعاوى واتهامات متعددة يلقيها الكفار قديما وحديثا لنفي صحة الرسالة كاتهامه بالسحر والجنون وتأليف الشعر.. الخ، لكنها كلها تصب في هذين الافتراضين. فإذا انتفى هذان الافتراضان فإن التهمة تسقط بطبيعة الحال.

ومن الطريف أن المتأمل في السيرة سيجد أحداثا تنفي كلا الافتراضين معا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقفه صلى الله عليه وسلم من حادثة الكسوف وكذلك نزول سورة المسد.

ومهما بلغت ثقة المخادع في نفسه وفي ذكائه فإنه لن يثق في أن تخلو الأجيال البشرية في المستقبل من أشخاص قد يفوقونه في الذكاء والقدرة. فكيف ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- لو كان مخادعا- أنه لن يأتي من يفوقه في القدرة على الإتيان بسورة مثل سور القرآن؟ خصوصا أن هذا التحدي مفتوح لا يقيده زمان ولا مكان! بل إن المخادع كلما ازداد ذكاءً ازداد حيطة وحرصا على أن لا يضع مصيره رهن المستقبل المجهول.

أما الملحد الذي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واهما بالنبوة فصدر عنه هذا التحدي، فالزمن يرد عليه! لماذا ظل هذا التحدي من شخص واهم قائما كل هذه القرون، مع كثرة الأعداء الذين يسعون لإسقاطه؟

 

صراحة التحدي

ما معنى أن ينكر الملحد الإعجاز القرآني؟ المعنى بكل بساطة هو أن القرآن نص بشري يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. هذا هو مقتضى الإنكار. لأنه إذا كان معجزا فلن يستطيع أحد الإتيان بمثله، وبالتالي لو أتى أحد بمثله لم يكن معجزا.. البناء المنطقي لهذا التحدي بسيط للغاية ولا يحتاج إلى عبقرية أو مستوى عال على مقياس الذكاء!

 

القرآن بات متواترا

قد يحتج الملحد بأن عدم الإتيان بسورة من مثله ليس مبنيا على استحالة ذلك وإنما هو مبني على أن القرآن بات معروفا ومتواترا، ولهذا يصعب الإتيان بنص متواتر بين المسلمين مثله! لكنه ينسى أن سورة البقرة التي حوت هذه الآية نزلت أصلا في بداية العهد المدني، وقبل انتشار الإسلام، أي أن الكثير من العرب الأقحاح كانوا حينها كفارا لا يؤمنون به، ومثلهم يهود المدينة. بل إن الكفار من أعداء الإسلام كانوا أضعاف عدد المسلمين، وكان المسلمون أقلية، فلماذا لم يستجب الكفار الذين لم تكن تنقصهم البلاغة والبيان لهذا التحدي ليأتوا بسورة واحدة فقط في مجتمعهم يتداولونها ويتواترونها؟ نفس المجتمع ونفس الجنس ونفس اللغة.. فالشروط التي كانت متحققة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا متحققة لهم..

 

التحدي وجودي

هذا التحدي ليس مجرد تحد عابر.. بل إنه تحد وجودي، أي أن صحة النبوة والدين كلها قائمة على الإتيان بسورة من مثله! فلو أتى أي مخلوق بسورة واحدة، كسورة الكوثر مثلا، تتكون من ثلاث آيات لا يزيد مجموع حروفها عن 42 حرفا، فإن الإسلام سينهار تماما.. وهنا تتجلى عظمة هذا التحدي، فلا شك أنه كلما كان شرط التحدي سهلا وكانت نتيجته في الوقت نفسه مصيرية فإن قوة التحدي وعظمته تكون أبلغ. ليس هذا فقط، وإنما هو تحد مفتوح لكل مخلوق على وجه الأرض وقائم إلى الأبد.

 

الجزء وليس الكل

عندما كان المشركون واليهود في المدينة يهزؤون بالنبوة وينكرون أن القرآن وحي من الله تعالى، جاءهم هذا التحدي ليس للمطالبة بقرآن مثله، وإنما للإتيان بسورة واحدة، إمعانا في الإعجاز والتحدي، وكما ذكرنا فإن سورة الكوثر تتكون من 42 حرفا، بينما عدد أحرف القرآن هو 323671، أي أن القرآن أكثر من سبعة آلاف ضعف مما عجزوا عن الإتيان به. ولا شك أن هذه مبالغة في التحدي.

 

اطلبوا العون

لم يكتف الله تعالى بتحدي الكفار واليهود أن يأتوا بسورة من مثله، فقد يعجزون هم ثم يدّعون بأن هناك من يستطيع ذلك غيرهم.. ولهذا طلب منهم القرآن أن يدعوا شركاؤهم ليعينوهم، بل أمعن بالتحدي في آية أخرى قائلا "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88]. ولا شك أنك عندما تتحدى شخصا للقيام بعمل ما، ثم تدعوه للاستعانة بكل أحد، فإن هذا التحدي يكون مضاعفا، والاستعانة بحد ذاتها هي تحد آخر.

 

إنهم بسطاء

عندما يقول الملحد إن القرآن ليس فيه ما يستحق التحدي، ولكن الناس بسطاء فصدقوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبأن القرآن وحي من الله، فإننا نجيبه بأن أمثال هؤلاء "الناس البسطاء" موجودون في كل زمان ومكان، أي أن الظروف التي يقوم عليها التحدي هي ظروف واحدة، والتحدي لازال قائما، فشمّر عن ساعديك واستفد من نسبة الذكاء (IQ) لديك، وقم بدورك في إقناع "الناس البسطاء" بسورة من مثله حتى تتمكن من القضاء على الإسلام.. لا تكن منافقا يدعي أن القرآن ليس معجزا وهو يعيش هذا الإعجاز ليلا ونهارا

 

التحدي مشهور

إن هذا التحدي ليس تحديا طبيعيا! هذا التحدي مشهور جدا، يشهده المليارات من البشر.. ولك أن تتخيل هذه المليارات وهم ينتظرون من يخرج لهم ويدق على صدره ويأتي بسورة من مثله! أليس في هذا العرض غاية الإغراء؟ ألا يستحق المحاولة أمام هذه المليارات من البشر؟

 

حركة مكشوفة

لا شك أن هناك محاولات قليلة جدا وقعت عبر التاريخ، وهي محاولات مضحكة يتندر بها الناس، بل إنها أصبحت من دلائل الكذب كما في قرآن مسيلمة "يَا ضِفْدَعُ بِنْتُ ضِفْدَعِينَ، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، نِصْفُكِ فِي المَاءِ وَنِصْفُكِ فِي الطين"، حتى صار يعرف باسم "مسيلمة الكذاب"، فتأمل الفرق بين القرآن الذي هو من دلائل النبوة وبين كلام مسيلمة الذي بات من علامات الكذب.

لقد كان مسيلمة الكذاب يحاول، لكنه على كذبه أكثر صدقا من بعض المحاولات التي تقوم على النصب والتدليس، حيث قام بعض المنصرين بما يسمى "التّناصّ" (Intertextuality)، وذلك باستخدام الألفاظ القرآنية نفسها ليركب منها جملا جديدة، فتبدو وكأنها آيات، لكن التلاعب واضح فيها، ويمكن لأي مسلم أن يكشفها. وهذا بالطبع تحريف للآيات وسرقة لألفاظها وليس إتيانا بمثلها، بل يدل هذا السلوك على العجز عن مقابلة التحدي بشرف، فعندما تنص الآية على "سورة من مثله" فإن المثلية هنا تقتضي الإتيان بشيء جديد، فسبحان الله الذي جعل مجرد المحاولة دليلا على العجز!

 

الشعور بالعجز

مهما حاول الملحد تبرير عدم قدرته على الاستجابة لهذا التحدي، واختلاق الأعذار، فهو يظل واهنا يغمره الشعور بالعجز، وتظل هذه الآية قائمة شامخة وباقية إلى الأبد، والتحدي قائم لا يخفى على أحد.

 


 

المصدر:

موقع هداية الملحدين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحدي-القرآن
اقرأ أيضا
أحاديث مشكلة في الحجاب ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

أحاديث مشكلة في الحجاب ج1


لا يخلو باب من أبواب أصول الدين ولا فروعه من آيات أو أحاديث مشتبهة تخالف في ظاهرها المحكمات البينات فإن جاز ذلك في الأصول فإنه في أبواب الفروع من باب أولى وفي أبواب حجاب المرأة ولباسها يورد بعض الكتاب أحاديث تخالف المحكم البين منها الصحيح ومنها الضعيف ومنها ما لو وضع في موضعه ولم يلغ به العام لاستقام للناظر الحكم ولكن استعمل كثير من الأحاديث الظنية في نقض القطعية والأحاديث المشتبهة في نقض المحكمة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
638
مقالة مفيدة لسفيان الثوري | مرابط
مقالات

مقالة مفيدة لسفيان الثوري


عليك بالصدق في المواطن كلها وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها فإنها وزر كله وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل فإنه شرك بعينه وإياك والعجب فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه كيف يعالج داء الناس وينصح لهم؟

بقلم: أحمد بن عبد الله الأصفهاني أبو نعيم
224
امرأة عمران تبني بيتا | مرابط
تفريغات

امرأة عمران تبني بيتا


لقد وردت أيتها الأخوات الكريمات سيرة المرأة في القرآن الكريم في عدة مواضع دالة على ما أولاه هذا الدين لهذه المرأة وعلى ما أعطاها من الرعاية والاهتمام البالغين انظرن مثلا في هذه القصص التي نسردها الآن مع بعض تحليلات وذكر للعبر منها.. إن على رأسها قصة امرأة عمران التي تطالعنا في سورة آل عمران شخصية المرأة المسلمة.. المرأة المؤمنة التي تبدأ في تكوين البيت المسلم بداية من الحمل.

بقلم: محمد المنجد
268
نشوء دولة التتار ج2 | مرابط
تفريغات

نشوء دولة التتار ج2


في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة

بقلم: د راغب السرجاني
679
كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج | مرابط
مقالات

كيف بدأت قصة الإسراء والمعراج


رحلة الإسراء والمعراج هي أعجب رحلة في التاريخ حيث نقل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجسده من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلا ثم عاد به إلى بيت المقدس ثم أخيرا إلى مكة كل ذلك في جزء يسير من الليل

بقلم: د راغب السرجاني
566
قضية اللغة العربية الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات لسانيات

قضية اللغة العربية الجزء الأول


ضعف في اللغة يستشرى جيلا بعد جيل واستهانة بما يصيب اللغة تتفاقم جيلا بعد جيل موقف فريد مناقض للطبيعة تقفه أمة العرب ومن ينتمون إليهم بالدين الواحد والحضارة الواحدة أو باللسان الواحد والحضارة الواحدة وإن خالفوهم في الدين كيف تم هذا كله لابد من تفسير لما حدث كيف حدث وإلا فلا علاج لعلة لا يعرف الطبيب أسبابها ولا نشأتها ولا تاريخها وكفى بالطبيب جهلا أن يعالج أعراض الداء والداء في مكمنه حي طليق مسيطر مستبد

بقلم: محمود شاكر
2065