
كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة, فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب "الأخلاق الاجتماعية" وغاية التشريع هو "سياسة المصالح العامة".
وقد شاركهم مثل هذا الطرح بعض المنتسبين للاتجاه الإسلامي -بحسن نية- حيث كان مقصودهم تقريب الإسلام إلى النخب الثقافية التغريبية, فتكلموا في مقاصد الشريعة على هذا الأساس, وكان من أكثر الأسباب التي ساعدتهم على هذا الوهم فهمهم غير الدقيق لعبارات بعض متأخري الأصوليين في علم مقاصد الشريعة وعلم السياسة الشرعية حول المصلحة والضروريات الخمس ونحوها.
ومن كتب من المنتسبين للفكر الإسلامي متابعًا لهذه الاتجاهات إنما حمله على ذلك أنه رأى في ظاهر هذه الفكرة تعظيمًا للشريعة وحمدًا لها, ولم يتنبه لآثارها ومآلاتها ولوازمها.
ومن مقتضيات هذه الرؤية -التي وصل إليها كثير من غلاة المدنية- أنهم لما رأوا بعض المجتمعات غير المسلمة تهتم ببعض الأخلاق الاجتماعية وسياسة المصالح العامة شعروا أن هذه المجتمعات حققت مقصود الإسلام وإن لم تسلك وسائله, والعبرة بالغايات لا بالوسائل, بل إن بعضهم يردد العبارة الدارجة رأيت في الغرب إسلامًا بلا مسلمين, أي أنه رأى مقاصد الإسلام وإن لم يسلم هؤلاء, فتراجعت قيمة المأمورات والمنهيات الإلهية, لما اختزلت مقاصدها في الشأن الاجتماعي والمادي.
بل إنهم كثيرًا ما يشيرون إلى أن فقهاء الإسلام المتقدمين والمعاصرين إنما اشتغلوا بتفاصيل المأمورات والمنهيات الواردة في نصوص الوحي, بينما الأمم المتقدمة حققت المقاصد دون هذا الإغراق في هذه التفاصيل, فكان مؤدى هذه الفكرة الزهد العميق في فقه الوحي, والانبهار بالمجتمعات الكافرة.
ومن آثار هذه الرؤية, أن تراجعت قيمة تفاصيل الوحي, ولذلك كتب بعض غلاة المدنية بأن الإنسان المهذب في سلوكه الاجتماعي لكنه لا يعبد الله أفضل من الشخص العابد لكن في سلوكه بعض الفظاظة, لأن الأول حقق المقصد والثاني حقق الوسيلة, والمقصد مقدم على الوسيلة.
بل إن بعض من امتهن التجديف في الشرعيات وصلت أسئلته واستشكالاته الجريئة إلى "الكبائر" فلا زلت أتذكر ماكتبه أحدهم حول دور التطور الحديث في رفع المحظورات وضرب لذلك مثلًا بأن "تحريم الخمر" إنما كان مقصوده الشرعي حفظ صحة البدن وضبط تصرفات العقل, فمع تطور الآليات التشريعية والأجهزة الصحية ومعامل الإنتاج والنظم الجنائية فإنه يمكن ضبط ذلك والسماح بقيود معينة
بما يمكن معه تحقيق مصلحة الخمر التي أشارت اليها الآية "ومنافع للناس" مع درء المفسدة التي يتغيا الشارع درءها.
وكتب بعضهم يقول: أن المقصد الشرعي من تحريم المعاشرة خارج مؤسسة الزواج إنما هو حفظ النسب والنسل, فعليه فإنه لما تطورت تقنيات التحليل الطبي الحديثة لكشف النسب وتطورت نظم الرعاية الاجتماعية للطفل, فإن مقتضى ذلك مشروعية العلاقات غير المشروعة بين الجنسين, لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا, ولن تتحقق مفسدة اختلاط النسب وضياع النسل.
وهذه النماذج السابقة وإن كانت نماذج متطرفة ولم يكتب لها الانتشار بسبب بشاعة صورتها النهائية, إلا أنها مما يكشف المآلات الخطرة التي يؤول إليها ربط الشعائر والشرائع بمجرد مقاصد مادية أو اجتماعية أو مدنية ونحوها, والغفلة عن المقاصد الأولية التي نبه إليها الوحي.
وأساس هذه الانحرافات كلها هو الضلال في فهم مقصود الشارع بالشعائر والشرائع, واختزال تلك المقاصد كلها في المصلحة الاجتماعية والمدنية والمادية, حتى إذا تحققت بعض تلك المقاصد الاجتماعية من غير طريق الشريعة لم يعد أولئك يعقلون معنى للعبادات والتشريعات الإلهية, وسنشير إلى جملة من المقاصد بشكل مختصر إذ المقصود المثال وليس الاستيعاب, والمثال كافٍ في التنبيه على جنس هذه النظائر.
فأما العبادات الظاهرة والباطنة -مثال الظاهرة الصلاة ومثال الباطنة التوكل- فإنها أولًا وقبل كل شئ ليست في أصل تشريعها أساسًا مجرد "وسائل" لغيرها, بل هي في ذاتها غايات ومقاصد مطلوبة مرغوبة محبوبة لله سبحانه وتعالى فإن الله يحب أن يرى عبده يسجد ويقنت ويركع ويطوف ويعلي ذكره ويوقن به ويخلص له ويحبه ويرضى بقضائه, فإن الله تعالى تبعًا لألوهيته سبحانه يحب أن يرى العبودية من عبده.

فمقصود الله الأولي من تشريع هذه العبادات الظاهرة والباطنة أنه يحبها جل وعلا ويحب منا أن نقوم بها, ولذلك لما ذكر الله الطهارة قال {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وتر يحب الوتر).
أما المقصود الأولي للعبد من القيام بهذه الأعمال فهو تحصيل رحمة الله كما قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
أما ما ورد من دور العبادات في تهذيب الأخلاق كقوله تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}
فغاية الدلالة في هذه الآية ونظائرها أن الأثر السلوكي إنما هو مجرد أثر يدخل في جملة المقاصد والحكم المحمودة لاأنه علة التشريع الأساسية, وفرق بين العلة والأثر, ثم إن هذه الآية وأمثالها بينت أن الأثر السلوكي لايقتصر على الأخلاق الاجتماعية فقط, بل يدخل في ذلك دخولًا أوليًا سلوكيات الايمان كمحاذرة الفواحش والمنكرات.
ولو كانت السلوكيات الاجتماعية هي علة التشريع الجوهرية من هذه العبادات لما كلف الله العباد بهذه الشعائر وتفاصيلها مع أننا نرى الكثير من الناس فيه سلوك اجتماعي حسن من دون هذه الشعائر, حتى أن الله ذكر عن بعض كفار اليهود أمانتهم مع كفرهم كما في قوله تعالى (ومن أهل من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) , بل لكان تكليف الله للخلق بهذه الشعائر لمجرد السلوك الاجتماعي تطويل للطريق وعبث ينزه الله عنه.
ثم يلي كونها أحوال مطلوبة في ذاتها مقاصد أخرى, وأعظم وأهم مقاصد الشعائر الظاهرة "تزكية النفوس" بمقامات الإيمان كالتضرع والخضوع والتذلل والافتقار والمناجاة والتمسكن ومناشدة الله والانطراح بين يديه واللجأ اليه وامتلاء القلب بحمده وشكره.
وهذه الغاية الجليلة وهي تزكية النفوس وعمارة القلوب بالله تشمل الشعائر والتشريعات, فإن أصول المأمورات وأصول المحرمات كلها تثمر للقلب طهارة وزكاة وسلامة هي من أعظم المبتغيات الإلهية, وسنذكر نماذج لذلك.
فمن ذلك أن الله تعالى حين شرع الصيام لم تكن غايته الجوهرية "الحِمية الصحية" كما يقوله غلاة المدنية ممن يجعلون التشريعات مبنية لمقاصد مادية محضة, بل إن هدفه الجوهري ما يورثه للقلب من التقوى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
وحين ذكر تشريع الزكاة والصدقة ربطها بالتزكية فقال:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}
وحين ذكر الله تشريع الجهاد بين مايثمره للقلب من تمحيص وتزكية فقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}
وحين ذكر تشريعات الأسرة قال عن عضل الأولياء مولياتهم: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}
وحين ذكر أدبيات الاستئذان قال سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}
وحين ذكر أصول الفضيلة كغض البصر وضبط الغريزة ذكر أثرها في التزكية فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}
وقال عن أخلاقيات الحجاب: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}
وحين ذكر تشريعات القضاء والشهادات قال سبحانه: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
ومن تدبر هذه النصوص -وأمثالها كثير- علم قطعًا أن من أعظم غايات ومقاصد التشريع تزكية النفوس وعمارة القلوب بالله, أما تهذيب الأخلاق الاجتماعية وإقامة المصالح العامة فهي من جملة غاياتها ومقاصدها التي يحبها الله, لكن لايجوز اختزالها فيها وقصرها عليها, فضلًا عن تقديمها على أصل الإيمان والفرائض.
المصدر:
إبراهيم السكران، مآلات الخطاب المدني، ص198