ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الثاني

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد صالح المنجد

1119 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الإيمان بالقضاء والقدر يورث التَّسليم لحكم الله

وكذلك يكون بالقضاء والقدر إيمانًا به يسلم العبد من الاعتراض على أحكام الله الشَّرعية، ولا يعترض بكلمة ولا يفعل، مثل النِّياحة فلماذا تحصل النِّياحة؟ لما تُقطِّع شعرها، وتشقُّ ثوبها، وتضرب وجهها، تخمش خدها؟ لو أنَّ هناك إيمان قوي بعقيدة القضاء والقدر فإذا مات ولدها تقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، أمَّا التَّقطيع والضَّرب واللطم والكلام الكفري الذي يقع منهم الكلام الكفري فيناقض ذلك.

ثُمَّ أنَّ بالإيمان بالقضاء والقدر يَجدُّ الإنسان فيه ويعزم في أموره، ويأخذ بالنافع ويحصِّل الأسباب المفيدة؛ لأنَّه يعلم أنَّ نبيه صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" [رواه مسلم: 6945]. رواه مسلم.

ولذلك فإنَّ العبد يشكر ربَّه على ما أنعم به عليه من اندفاع نقمة أو حصول نعمة وأنَّ هذا قضاء من الله تعالى، فيرضى به العبد وتمتلأ نفسه بالرِّضا عن ربِّه والرِّضا باب الله الأعظم، وجنَّة الدُّنيا ومستراح العابدين، بل إنَّه يفرح بالقدر "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 58].

عندما يكون هذا القدر إيمان بالله وهداية، فإذا قدَّر الله لك الهداية تفرح به، وكذلك تحصل الاستقامة على المنهج في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وعدم اليأس من انتصار الحق، مثل هذا الزَّمان الذي نحن فيه الآن من كثرة الأعداء وقوتهم وتسلُّطهم وضعف المسلمين وتأخُّرهم، هناك مَن يقول: لا فائدة فقد ضاقت ولا مخرجٌ ولا نصرٌ، فإذا آمنَّا بقضاء الله وقدره وأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير، وكما أنَّه جعل الدولة لهم يقلبها عليهم ويجعلها للمسلمين، عدم اليأس من انتصار الحق، "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران: 140].

فتكون الدَّولة للكفَّار مرَّة وللمسلمين مرَّة "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران: 140]. ثم يحصل أيضًا للعبد في هذا الجانب رضا، بمعنى أنَّه لا يتمنَّى أن يحدث غير الذي حدث إذا كان مؤمنًا بالقضاء والقدر، ويعلم أنَّ كلَّ قضاء الله له خير، ولا يتأسفنَّ على شيء فات وانتهى، فليس مقدَّرًا لك، بل ربَّما الإنسان يكتشف أحيانًا أنَّ ما فاته كان خيرًا له، فمثلا: رجل ذهب ليحجز للسر فوجد الطائرة ممتلئة، وحاول أن يجد واسطات ألحَّ عليهم ولكن لا فائدة، فأقلعت الطائرة فانفجرت واحترقت، فعرف وسُرَّ بأنَّه قُدِّر عليه أنَّه لا يُقلع فيها.

 

تجري الأمور على حكم القضاء    وفي طَيِّ الحوادث محبوب ومكروه
ورُبَّما سرَّني ما كنت أحذره    ورُبَّما ما ساءني ما كنت أرجوه

فيكتشف الإنسان أحيانًا قصر نظره، أنَّه كان يسعى في أشياء وليست من مصلحته، وتارك أشياء هي من مصلحته، وكذلك يكتسب عِزَّة النَّفس والقناعة والتَّحرر من رقِّ المخلوقين في مثل قضية الرِّزق، وأنَّ الرِّزق عند الله ولن يموت حتى يستوفي رزقه، وأنَّ الله هو حسبه وهو الرَّزاق ولو قدَّر له شيئًا من الرِّزق فلابد أن يَصِله، ولا يستطيع إنسان أن يقطع زرق فلان، ولا يقول بعض النَّاس لا تقطع رزق فلان فليس بصحيح، لكن لا تكن سببًا في قطع شيء معين، لكن ممكن يأتيه غيره، فيفصله من العمل ويُرزق ذاك بعمل آخر في شركة أخرى، فالرِّزق سيأتي، وما يفعله بعض النَّاس هو أن يكون سبب في قطع شيء أو حصول شيء وذلك مجرد سبب، وإلَّا فالله هو الذي سخَّر هذا ليجد له عملًا، وقدَّر على هذا وجرت الأحداث بأن يفصله من عمله، ولذلك الإنسان إذا رُزق القناعة لم يكن ليلتفت.

رأيت القناعة كنزَ الغني    فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه    ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنيًا بلا درهم    أمرُّ على الناس شبه الملك

كما ذكر الشَّافعي رحمه الله تعالى.
فإذًا الفوائد كثيرة، والنَّعيم الذي حصل لعدد من النَّاس بسبب الإيمان بهذه العقيدة والسُّرور كبير، بحيث يتأمل الإنسان فيها، ويريد أن يأخذ من هذه العقيدة ما يُنعش به نفسه، ويُسرُّ به في حياته، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر" [جامع العلوم والحكم:  195].
وهذا يدخل في كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "إنَّ في الدُّنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" [ المستدرك على مجموع فتاوى1/153].

وبعض الكفار لما خالطوا  بعض المسلمين، بل بعض البادية والأعراب صار عندهم نوع من الدهشة لاستقرار هذا العقيدة في نفوس المسلمين، كما قال هذا الكاتب إنسيبود لي مؤلف كتاب رياح على الصحراء وكتاب الرَّسول، وألَّف أربعة عشر كتابًا آخر في مقالة بعنوان: عشت في جنَّة الله، قال: إنَّه في عام 1918م، وليت ظهر العالم الذي عرفته طيلة حياتي وهي مند شطرا أفريقيا الشِّمالية الغربية، عشت بين الأعراب في الصَّحراء قضيت سبعة أعوام أتقنت لغة البدو وارتديت زيَّهم وأكلت من طعامهم، واتخذت مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغنامًا، أنام كما ينامون في الخيام، وتعمقت في فهم الإسلام حتى أني ألَّفت كتابًا عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحل المسلمين من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان والرضا بالحياة.

وقد تعلَّمت من عرب الصَّحراء كيف أتغلَّب على القلق فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر -لاحظ العبارة هذه التي قالها الشَّخص هذا الذي كان كافر- يقول: فهم بوصفهم مسلمين الأعراب يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا على العيش بأمان، وأخذ الحياة مأخذًا لينًا سهلًا، لا يتعجلون أمرًا ولا يلقون بأنفسهم في القلق، إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأنَّ الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس معنى هذا أنَّهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، ودعني أضرب لك مثلًا مما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط ورمت بها في وادي الرَّون في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة حتى أحسست، كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيض كأنَّني مدفوع إلى الجنون.

ولكن العرب بهذه العاصفة العاتية الغبار لم يشكو إطلاقًا فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، لكنهم ما أن مرَّت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يود القيض بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدوا منهم شكوى، فقال رئيس القبيلة وهو الشيخ: لم نفقد الشَّيء الكثير فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمدًا لله وشكرًا فإنَّ لدينا نحوًا من أربعين في المائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد، وقال هذا الكاتب أيضًا: وثمة حادثة أخرى فقد كنا نقطع الصَّحراء بالسَّيارة يومًا فانفجر أحد الإطارات وكان السَّائق قد نسي استحضار إطار احتياطي يتولاني الغضب وانتابني القلق والهم وسألت صحبي من الأعراب ماذا عسى أن نفعل، فذكروني بأن الاندفاع في الغضب لن يُجدي فتيلًا بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطَّيش والحُمق.

ركبنا السَّيارة وتجري على ثلاث إطارات ليس إلا ثم كفت على السَّير بنفاذ البنزين فلم تثر ثائرة أحد منهم، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطَّريق سيرًا على أقدامهم، قال في نهاية تجربته: قد أقنعتني الأعوام السَّبعة التي قضيتها في الصَّحراء بين الأعراب الرُّحل أنَّ المُلتاثين ومرضى النَّفوس والسَّكيرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوروبا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السَّرعة أساسًا لها، إنني لم أُعاني شيئًا من القلق قط وأنا أعيش في الصَّحراء، بل هنالك في جنَّة الله وجدت السَّكينة والقناعة والرِّضا، ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول إنني بعد انقضاء سبعة عشر عامًا على مغادرتي الصَّحراء ما زلت اتخذ مواقف العرب المسلمين الأعراب حيال قضاء الله، فأقابل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسَّكينة، وأفلحت هذه الطِّباع التي اكتسبتها من أولئك البدو في تهدئة أعصابي أكثر مما تُفلح آلاف المسكنات والعقاقير، فاليوم يصرف أطباء النَّفس المسكنات والعقاقير، ولو يوجد أطباء قلوب يصرفون أشياء تؤدي بهؤلاء إلى الإيمان بعقيدة القضاء والقدر إذًا اكتفينا العقاقير والمسكنات، وكان العلاج أجدى وأنفع وأحسن، وبدون آثار جانبية مُضرَّة بل هي التي تضع الإنسان على الصِّراط المستقيم.


 

المصدر:

https://almunajjid.com/courses/lessons/323

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان-بالقدر
اقرأ أيضا
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية | مرابط
فكر مقالات

ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية


ما هذه إذن تلك القوة الغلابة التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها بلى وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة وربما تبلور في نظرة فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة الوجدان أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت أو في عالم الغيب الذي إليه تصير

بقلم: محمد عبد الله دراز
2107
من العاقل؟ | مرابط
تفريغات ثقافة

من العاقل؟


فالعاقل هو من يأخذ من دنياه لآخرته من يأخذ من صحته لمرضه من يأخذ من فراغه لشغله من يأخذ من غناه لفقره وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم فهذا العمر أمانة وهو نصيبك من الدنيا

بقلم: سفر الحوالي
322
الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف

الجهل بأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان


الابتلاء في هذه الحياة مثل الكأس وكل الناس شارب منه ولا بد لكنه يتفاوت من شخص إلى آخر حسب قوة إيمانه ويقينه وحقيقة نفسه التي يخرجها الله بهذه الامتحانات وهذا من ضمن أسباب إشكالية وجود الشر التي أثارها الكثير من الفلاسفة بين يديكم مقتطف يعالج فيه الكاتب هذه المسألة

بقلم: م أحمد حسن
563
مصادر التنظير في التاريخ الإسلامي ج2 | مرابط
مقالات أبحاث

مصادر التنظير في التاريخ الإسلامي ج2


وكثير من المصادر الغربية يغلب عليها الطابع الحداثي في قراءة الأحداث التاريخية أو تحليلها ذلك أنها اعتبرت الشريعة مثل القانون والأمر ليس كذلك نشأت وتطورت تبعا لنمو المجتمع وتطوره فأخضعت كل مجريات تاريخ التشريع الإسلامي لهذا المبدأ! في حين أن الشريعة سابقة على وجود الدولة لا مسبوقة بها حاكمة للمجتمع لا محكومة به والذي يتطور إنما هو وعي الناس بها.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
214
الديمقراطية والاستبداد: الأصل المشترك | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف الديمقراطية

الديمقراطية والاستبداد: الأصل المشترك


يبدو أن الديمقراطية والاستبداد بينهما أصل مشترك والشعب الذي يقدر على تحقيق النظام الديمقراطي عن طريق الانتخاب يقدر أيضا على تحقيق النظام الاستبدادي بنفس الطريق وبين يديكم مقتطف من كتاب مشكلات الديمقراطية يدور حول هذه النقطة ويقف بنا الكاتب على رؤية أفلاطون للنظام الديمقراطي وكيف يمكن أن ينشأ الاستبداد والديمقراطية من منبع واحد ومصدر واحد

بقلم: خالد العبيوي
566
هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء


تعليق ماتع من شيخ الإسلام ابن تيمية على قوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم ۖ هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ۚ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون فالمتأمل لهذه الآية يجد فيها أعظم دلالة على عقيدة التوحيد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1984