الدليل العقلي عند السلف ج3

الدليل العقلي عند السلف ج3 | مرابط

الكاتب: عيسى بن محسن النعمي

386 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

أَمَّا الضَّربُ الثالث: فنظر الفحص (المَشروط) والإِبطال:

منهج الأئمَّةِ النُّقَّاد في سَبْر المتون مَنهجٌ مَوضوعيٌّ مُساجٌ بِسياج العقل طاردٌ للذَّاتيَّة - التي لا تَنْضبط - أَن تكون منظومةً في أُصول مَنْهجهم المُحْكَمِ.

وبتقرِّي جزئيات تعليلاتهم للمتون تجد أَنَّها تُدار على أَربعة معايير، ثلاثة منها أَصليَّة، وواحد تَبعيٌّ عاضدٌ للأوَّل، وهذه المعايير أَو العلل الموجبة لنقد المتن هي كالتَّالي: الأوَّل: التعليل بالمخالفة، الثاني: التعليل بالتَّفرُّد، الثالث: التعليل بالاضطراب[1]. وأَمَّا المعيار التبعي العاضد للأَوَّل: فهو التعليل بالمناقضة للقواطع العقليَّة.

والَّذي يختصُّ بهذا المقام من هذه المعايير السالفة: هو المعيار الأول الأَصيل والرَّابع التبعي، ودونك الآن صفوةَ القول فيها:

أمَّا المعيار الأَوَّل، وهو التعليل بالمخالفة: فيراد به مناقضة المتن لقواطع الدَّلائل النَّقلية من الكتاب والسُّنَّة وما تركَّب منهما، والتعليل بالمُخالفة؛ هو قُطبُ رحى المنهج النَّقدي عند المُحدِّثين، حتى قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (مَدَارُ التَّعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف)[2].

وكون مناطِ التَّعليل بالمُخالفة قائمًا على الأُصول الثَّلاثة (الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع) يشهد له أَمران:

الأوَّل: التَّصرُّف العملي مِن الأئمَّة النُّقَّاد.

والثَّاني: وقوع التنصيص منهم على ذلك، وفي الإِبانة عن ذلك يقول الإمام ابن حِبَّان - رحمه الله - في سياق تَقْنينه لِمَنهج يُعرَف به الرُّواة بطريق الاعتبار: (ومتى عُدِمَ ذلك [يقصد وجود متابعة أو شاهد]، والخبرُ نَفْسُهُ يُخالف الأُصول الثلاثة، عُلِم أَنَّ الخبرَ موضوعٌ)[3].

وأَمَّا المعيار التبعي: فإعمال النَّظر العقلي مساندًا للأُصول المُتقدِّمة للكشف عن بطلان متنٍ ما.

ومثاله: حديث: (إنَّ الله - عزَّ وجل - خَلَقَ الفرس، فأجراها، فَعَرَقتْ، ثُمَّ خلق نفسه منها)[4].

فهذا الحديث مُناكِدٌ للدَّلائل الشرعيَّة النَّقليَّة والعقليَّة، فأمَّا النَّقل فبيِّنٌ ظاهر كقول الله - تعالى -: {لم يلد ولم يولد} فإذا كان الله قد نفى أن يكون متولدًا من غيره - تعالى عن ذلك - فإن امتناع أن يكون مخلوقًا من غيره مما خلقه أَوْلى في الامتناع.

وأَمَّا البرهان العقلي المعاضد فهو أنَّ الخالق يستحيل أن يكون خالقًا لنفسه؛ فيكون خالقًا ومخلوقًا في آنٍ واحد فإنَّ ذلك من باب اجتماع النقيضين.

لذا قال ابن الجوزي: (هذا حديثٌ لا يُشَكُّ بوضعه، وما وضع مثل هذا مسلمٌ، وإنَّه لمن أَركِّ الموضوعات وأَبردِها؛ إذ هو مستحيل؛ لأنَّ الخالق لا يخلق نَفْسَه)[5].

وقال الإمام ابن تيميَّة بعد أن ساق هذا الحديث وغيره من المختلَقات: (أحاديث مكذوبة موضوعة باتِّفاق أهل العلم)[6].

فإن قيل: ظاهر كلام الأَئمَّة عَدُّ المعيار العقلي أَصلًا مُستقلًّا من أُصول النَّقد للمتون. كقول الخطيب البغدادي - رحمه الله -: (ولا يُقبَل خبر الواحد في مُنافاة حُكْمِ العقل)[7].

وقول ابن الجوزي - رحمه الله -: (... فكلُّ حديث رأَيتَه يُخالفُ المعقول، أو يُناقض الأُصول فاعلم أنَّه موضوع)[8].

وقول الإمام ابن القيِّم الجوزيَّة - رحمه الله -: (ونحن نُنبِّهُ على أُمور كُليَّةٍ، يُعرفُ بها كون الحديث موضوعًا... منها: تكذيب الحِسِّ له)[9]، ومراده بالحسِّ هنا العقل المستند إلى الحس؛ لأن الأخير لا حكم له؛ وإنما هو ناقل لمعطيات خارجيَّة.

فيقال: هنا نُكتةٌ ينبغي تقريرها، وهي أَنَّ مقالة هؤلاء الأَئمَّة حقٌّ في رُتبتها، فهي حقٌّ من جهة أنَّ العقل الفطري بمبادئه الضَّروريَّة، أو المُستند إلى الحس كلاهما يعمل على توطيد الحكم بوضع متن بعد انتصاب الدَّلائل المُحكَمة من الأُصول السابقة على تكذيب هذا المتن، ودفع صدقه؛ لذا ترى أَنَّ الأمثلة المُساقة لديهم في بيان حظِّ العقل في نقد المتون كلُّها مما لا يُدرَك فَسادُها من جهة العقل فقط، هذه واحدةٌ.

وثانية: أَن عدَّ العقل أَصلًا في نقد المتون انزياحٌ عن مَدْرجة الموضوعيَّة إلى فضاء الذَّاتيَّة؛ وذلك أمر يتنافى مع المنهج النَّقدي الذي شاده صيارفة الحديث ونُقَّاده؛ ومَنْشأ ذلك: أنَّه لا يؤمَن من غَواشي غلبة الهوى، وطغيان العقد القلبي على العقل، أو طروء الوهم والخطأ على الحِس؛ بحيث تكون الصورة في الظَّاهر توظيفًا للضرورة العقليَّة أو الحسِّيَّة، وفي باطن الأمر إنما هو الهوى أو الوهم، لا البرهان العقلي.

وفي تقرير أنَّ العقل وحدَه لا يستقل في نقد المتون يقول الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله -: (والواقع أنَّه ليس في الأخبار الصحيحة التي لا معارِض لها من جِنسْها ما يُخالفُ القرآن و لا العقل)[10].

وقال: (... كما بيَّنَّا أنَّه لا يوجد حديثٌ صحيحٌ مستحِقٌّ للرَّدِّ بلا حديث يُعارضه)[11].

المقصد الرَّابع: سبر بعض المقولات التي يُتوَهم شخوصها عن المنهج:

قد وردَ عن بعض أئمَّة السَّلف ما قد يُشكل على ما تقدَّم بيانه من اعتبار الدَّليل العقلي برُتبته المُلمَح إِليها؛ وذلك كالوارد عن الإمام أحمدَ - رحمه الله - حيثُ قال: (ليس في السُّنَّة قياس، ولا يضرَب لها الأمثال، ولا تُدرَكُ بالعقول ولا الأهواء؛ إنَّما هو الاتِّباع وترك الهوى)[12].

وكقولِ الإمام أَبي المُظفَّر منصور بن محمد السمعاني - رحمه الله -: (فَمن الدِّينِ معقول وغير معقول، والاتِّباعُ في جميعه واجبٌ)[13].

بل هذا هو قول سائر أئمة السَّلفِ - رحمهم الله - كما حكاه عنهم أَبو العباس ابن تيمية، رحمه الله[14].

وتحرير معنى المنقولِ عنهم - رحمهم الله - يتأتَّى بالكشف عن قضيَّتينِ:

الأولى: بيانُ مقصودهم بنفي إدراك العقل للشَّرعِ.
الأخرى: بيانُ أن الجهة مُنفكة بين ما نفاه الأئمةُ - رحمهم الله - وبين ما أثبتوه، وأَنَّ النفي واقع على غير محل الإثبات.

أمَّا القضيَّةُ الأُولى: فليس المقصود بنفي إدراك العقول في ما ورد في كلام الإمام أحمد، وأبي المظفر - رحمهما الله - فَهْمَ العقلِ لما خُوطِبَ به، وهذا لا نزاع فيه؛ إذ كيف يقع التكليفُ والاتباع دون أَن يتحقق مناطُ التكليف من فَهم المُكلَّف لخطاب الشارع؛ سواء كان هذا الخطاب متعلقٌ بأصول الدِّين أو فروعه.

ومما يؤكد حقيقة ما يرمي إليه هذان الإمامان وغيرهما: دلالة السياق التي تدلُّ على مُرادهما، وبيان ذلك:

أن سياق كلام الإمام أحمد يدل على أن ما نفاه هو معارضةُ السُّنَّة في ما يُظَنُّ أنه معقول؛ فهو - رحمه الله - يرمي إلى تثبيت التسليم والاتباع لما دلَّت عليه النصوص، وعدم إناطة التسليم بانتفاء المعارِض العقلي؛ إذ مَن صدَّق الرَّسول صلى الله عليه وسلم حقًا فإنه يجزم بعدم إخباره صلى الله عليه وسلم بما يُحيله العقل؛ فمن أناط تصديقه في ما يُخبر به باشتراط عدم المعارض العقلي، فلن يقع له الاستدلال بالنَّقل مُطلقًا؛ لأن إناطة قبول النقل بعدم ما لا يتناهى؛ إناطة بما لا يمكن تحقيقه؛ فيكون العلم بانتفاء ما لا يتناهى مستحيلًا؛ فيكون القبول أَيضًا مستحيلًا.

فَفَهْمُ العقل وتمييزه لما خُوطب به ليس هو المتناول بالنفي في كلام هذين الإمامين وغيرهما، لذا يقرر أَبو المظفَّر - رحمه الله - ذلك بقوله: (إنَّ الله أسس دينه وبناه على الاتباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل) وقال: (فهذه الدلائلُ دلَّت أنَ الله - تعالى - هو المُعرِّفُ؛ إلاَّ أنه إنَّما يُعرِّفُ مع وجود العقل؛ لأنّه سبب الإدراكِ والتمييزِ، لا مع عدمه...)[15].

القضيَّة الأخرى: أنَّ المنفي هنا إدراكُ العقل للمطالب الدِّينية جميعها على جهة الاستقلال دون هداية من الوحي، أو إدراك المكلفين حكمةَ الشَّارع في شرعه على جهة التفصيل، أَو أنَّ العقل يُوجبُ شيئًا، أو يُحرِّمُ شيئًا، أَو أنَّه يقضي بثوابٍ أو عِقابٍ قبل دلالة الوحي على شيءٍ من ذلك، وأَمَّا المثبتُ فهو دركُ العقل وفهمه لما خوطِب به، وإمكان الاستدلال ابتداءً على بعض المطالب الدِّينيةِ كمسائل أصول الدين، كإثبات وجود الله - تعالى - وإثبات الكمال المطلق للباري - جل جلاله - وإثبات البعث. والله - تعالى - أعلم.

وصلى الله على نبيِّنا محمدٍّ وعلى آله وصحبه وسلم.


المصدر:
مجلة البيان

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: نقد المتن الحديثي، لخالد الدِّريس، (ص22).
  2. النكت على كتاب ابن الصلاح: (2/711).
  3. صحيح ابن حبَّان: (1/154، 155 - بترتيب ابن بلبان).
  4. أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات: (1/149).
  5. المصدر السابق: (1/149).
  6. درء التعارض: (1/149).
  7. الكفاية، (ص432).
  8. الموضوعات، لابن الجوزي: (1/151).
  9. المنار المنيف، (ص44).
  10. جواب الاعتراضات المصرية، (ص50).
  11. المصدر السابق، (ص85).
  12. أُصول السنَّة للإمام أحمد، (ص19، ضمن عقائد أئمة السلف ).
  13. الانتصار لأصحاب الحديث، جمع محمد بن حسين الجيزاني، (ص78).
  14. درء التعارض:  (5/297).
  15. المصدر السابق، (ص78،  79).
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الاختلاط هم ووهم | مرابط
فكر مقالات المرأة

الاختلاط هم ووهم


من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء الملقاة على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحد أن يتوهم بعض الناس أنها من المسلمات الفقهية القول بأن المحرم في الشريعة هو الخلوة لا الاختلاط وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعا مختلطا يجتمع فيه الرجال والنساء ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيدة له وفي هذا المقال يقف المؤلف على إشكالية الاختلاط وما يسوقه المؤيدون له من أدلة مزعومة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1176
أوروبا قبل الاتحاد: تاريخ من العداء | مرابط
تاريخ

أوروبا قبل الاتحاد: تاريخ من العداء


إذا أردنا أن نلخص التاريخ الأوربي في عنوان واحد فلن نجد أفضل من تاريخ من العداء حيث لم تتمتع دول أوربا على مر تاريخها بالوحدة والعيش في ظل حكومة واحدة إلا في حقبة واحدة عاشتها تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية التي استطاعت أن تحكم قبضتها الحديدية على غالب دول أوربا لمدة ثلاثة قرون كاملة من الزمان ثم انهارت وهلكت مخلفة انقسامات حادة وخلافات عميقة وفي هذا المقال نقف على أهم المحطات والمراحل التي مرت بها أوروبا قبل الاتحاد

بقلم: راغب السرجاني
1200
الارتباط بالله | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

الارتباط بالله


قد تظل الأمة سليمة من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس فيتعذر على الشخص العادي أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات أن يصدق أن تحلله هو وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره

بقلم: محمد قطب
2768
الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الطفل الإسلامي والطفل الغربي الجزء الثاني


إن تربية الأولاد أمانة ومسئولية لا بد من القيام بها فانظروا كم ضيع الأمانة اليوم من المسلمين كم من أولياء أمور ضيعوا الأمانات ضيعوا الأولاد ضيعوا فلذات أكبادهم أهملوا تركوهم في الشوارع يتعلمون الألفاظ القبيحة والعادات السيئة كالتدخين وغيره ويتدرجون شيئا فشيئا إلى أن يتعاطوا المخدرات ويقعوا في الفاحشة واللواط وهكذا تكون النتائج متوقعة ولا شك أنها نتيجة لهذا التضييع

بقلم: محمد المنجد
696
التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات النسوية

التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الثاني


تستعرض المؤلفة في هذا المقال بعض القواعد والأسس والكليات والأصول الدينية التي فيها رد ضمني على منطلقات التيار النسوي ومرتكزاته وأعمدته الفلسفية والفكرية سنرى هنا كيف تعامل الإسلام مع المرأة وما هي صورة المرأة في الإسلام هل فعلا هناك ظلم واقع عليها أم لا وهل هناك دونية أو نظرة استعلاء من قبل الرجل للمرأة في الإسلام أم لا وغير ذلك من التساؤلات والمرتكزات النسوية

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2263
أصلان ثابتان في الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصلان ثابتان في الإسلام


ودين الإسلام مبنى على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين وكذلك شريعة الإنجيل.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
419