الارتباط بالله

الارتباط بالله | مرابط

الكاتب: محمد قطب

2667 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الناس يقبلون الخضوع للدولة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، لأنهم قد يصلون لدرجة من الوعي يستطيعون معها إدراك هذه الحقيقة: وهي أنهم حين يتنازلون عن بعض امتيازاتهم في هذه الشئون للمحرومين منها فإن ذلك سيعود عليهم بالخير في النهاية. أو على الأقل يخضعون لها بحكم السلطة التي تملك بها إخضاعهم لأوامرها.

 

ولكن الشأن يختلف في المسألة الخلقية. فالناس لا يتنازلون عن متاعهم ولذائذهم من أجل الدولة وحدها. وقد يدرك الفلاسفة والمشتغلون بالقضايا الفكرية أن التحلل الخلقي شر على الإنسانية يعود عليها بالبوار، ويبدد طاقتها في محيط حيواني هابط، فلا تتطلع إلى الارتفاع، ولا تجد الطاقة اللازمة له، لو اتجهت إليه.

 

ولكن غمار الناس لن يدركوا ذلك، لأنه قد لا يقع في جيلهم. فقد تظل الأمة سليمة –من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة، بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس؛ فيتعذر على الشخص العادي، أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات، أن يصدق أن تحلله هو –وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام، يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره. وحتى إذا صدّق بذهنه، فإنه –بغير تهذيب ديني- لا يستطيع أن يمتنع عن اللذة العارمة التي يحسها من أجل خطر لا يرى أنه سيقع عليه مباشرة، حتى إذا وقع في نفس الجيل.

 

فإذا فرضنا أن الدولة من عندها –أي بالقوانين الأرضية وحدها- تعاقب على الجرائم الخلقية حين تضبطها، فهي لن تستطيع أن ترى كل جريمة، ولا أن تتعقب كل مجرم. وسيفلت منها كثير من الجرائم بلا إثبات ولا عقاب. ومع ذلك فهذا فرض نظري في الوقت الحاضر، فدول الغرب “المتحضر” كلها لا تكاد تعاقب على هذه الجرائم إلا حين تقع كرها أو على القاصرين!

 

وإنما يحتاج الامتناع عن الجريمة الخلقية إلى الارتباط بالله. وذلك وحده هو الضمان.
الارتباط بالله هو الذي يهذب النفس فلا تندفع وراء الجريمة.

 

وهو الذي يقيم أهدافا أعلى من أهداف الأرض تستنفد الطاقة الجسدية والنفسية الفائضة فتصرفها عن عالم الشهوات.
وهو الذي يقيم في داخل النفس حسيبا يراقب كل عمل لا تصل إليه يد القانون ولا تبصره عين الدولة.
وهو الذي يعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الأرض، أملا في النعيم الدائم في السماء.
وهو الذي يحدث في نهاية الأمر رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة والقانون.

 

وبهذه العوامل كلها مجتمعة ومممتزجة في العقيدة، يمتنع الناس عن ارتكاب الجريمة. فإذا أضيف إلى ذلك أن تكون القيود التي تفرضها العقيدة معقولة في ذاتها لا تحرم إلا المتاع الزائد عن الحد، ولا تكبت الشهوات من منبتها، فقد استوت لها العدالة مع القدرة على التهذيب. وذلك ما يتحقق في العقيدة الإسلامية التي تعترف بالشهوات على أنها الأمر الواقع بالنسبة للبشر: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ..) ولكنها فقط تهذب التنفيذ العملي لهذه الشهوات، فتقف بها عند الحد الذي لا يؤذي الفرد ولا المجتمع، ويتيح في الوقت ذاته قسطا معقولا من المتاع

 


 

المصدر:

  1. محمد قطب، في النفس والمجتمع
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأستاذ-محمد-قطب
اقرأ أيضا
الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2 | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج2


ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود وأنه الخالق للكون المدبر له والمتصرف في شؤونه والمتصف بصفات الكمال والجلال

بقلم: د سلطان العميري
2327
نقض أصول الإلحاد الإيجابي | مرابط
الإلحاد

نقض أصول الإلحاد الإيجابي


لا يمكن لإنسان أيا كان في قضية وجود الخالق أن يحكم على الخالق بحكم إلا وقد سبق ذلك الحكم تصور معين عن الخالق الذي يريد الحكم عليه. حتى الملحد الجلد لا يمكنه إنكار الصانع إلا وحكمه فرع عن تصور معين لخالق يأباه ولا يوافق عليه إذ يستحيل أن يخوض الملحد في قضية ممتنعة لذاتها أو قضت ضرورة العقل بانتفائها فهذا عبث وسفه.

بقلم: عبد الله بن سعيد الشهري
304
لو كان الدين بالرأي | مرابط
تعزيز اليقين

لو كان الدين بالرأي


وطريقة أهل السنة والجماعة أنهم يحكمون النقل والعقل السليم لا يعارض النقل الصحيح فأهل السنة هذا منهجهم وهذه طريقتهم أنهم يعولون على النصوص وأما العقول عندهم فتابعة للنصوص كما قال بعض أهل العلم: إن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد مهمته أنه يأخذ بالفتوى فإذا أفتاه العالم المجتهد يأخذ بفتواه

بقلم: عبد المحسن العباد
474
بين الحجاب والتبرج: هل يمكن للظاهر أن يخالف الباطن؟ | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين الحجاب والتبرج: هل يمكن للظاهر أن يخالف الباطن؟


سنقف هنا مع المسلمة التي لا تلتزم بالحجاب وتزعم أن بداخلها إيمان يوازن إيمان المحجبات جميعا سنراها مرة في صورة الأم ومرة أخرى في صورة الزوجة لنختبر هذه الازدواجية التي تدعيها بين باطنها وظاهرها وهل فعلا ستلتزم في حياتها بهذا المبدأ أو الاعتقاد ألا وهو مخالفة الظاهر للباطن أم أنها لن تقدر على ذلك؟

بقلم: محمود خطاب
341
حجاب المرأة ولباسها في الإسلام | مرابط
فكر مقالات المرأة

حجاب المرأة ولباسها في الإسلام


لا يختلف العلماء في جميع المذاهب: أن المرأة يجب عليها ألا تلبس لباسا ملتصقا يصف جسمها ولا أن تلبس شفافا يبدي لون أو هيئة ما يجب عليها ستره من بدنها وهن المقصودات بقوله صلى الله عليه وسلم في أحد الصنفين من أهل النار: نساء كاسيات عاريات يعني: لا هي كاسية ولا هي عارية لشفوف لباسها ووصفه وفي المسند عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: ما لك لم تلبس القبطية

بقلم: عبد العزيز الطريفي
687
الفصل بين الناس في النزاع | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفصل بين الناس في النزاع


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يعرض فيه أهمية الوقوف على الكتاب والسنة وإلزام المخالف به ويضرب مثلا على ذلك في مناظرة الجهمية والمسلك الذي سلكه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في محنة خلق القرآن والخلاصة أن نقول كما قال شيخ الإسلام ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1650