الربوبية والوعي المبتور

الربوبية والوعي المبتور | مرابط

الكاتب: د. سامي عامري

349 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يقوم المذهب الربوبي على عدد من الأصول التي باجتماعها تتجلى الرؤية الكونية الكبرى لأنصاره، وأهمها:

  • الإله واحد ليس له شريك، وهو ذات مفارقة للطبيعة، فاعلة ومريدة.
  • الكون محدد، ويعمل ضمن ناموس ميكانيكي داخلي مستغن عن العناية الإلهية للبقاء والسيرورة.
  • الكون هو المظهر الوحيد لمعرفة الله، فهو كتابه المقدّس. ومعرفة الإنسان إلهه -بذلك- أشبه بمعرفتنا بالرسّام وذوقه بعد النظر في اللوحة.
  • العقل هو المصدر الوحيد لمعرفة الله، ومبدأ الوجود والغاية منه، والأخلاق التي يرضاها الخالق.
  • المعجزات لا تحدث؛ لأن الإله غير قادر على إحداثها إذ إن قوانين الكون لا تتغير أو لأنه لا يريد ذلك.
  • يؤمن جل الربوبيين بحياة بعد الموت للجزاء، إثابة أو عقابا.

الخلل الأكبر في اللاهوت الربوبي كامن في زعمه أن الله -سبحانه- قد خلق، فأتقن ما بدع -وإن أنكر بعضهم عليه أمور الألم في الكون- ثم أدبر عن هذا الوجود وأهمله، منشغلا بحديث أمره عمّا يجده لخلقه. وهو تصور طفولي للإله، ومن مظاهر طفوليّته مشابهته أو قل مطابقته للتصورات الوثنية للآلهة القديمة في مصر وبابل واليونان. فهذا التصور ليس ببعيد عن صورة الإنسان إذ يصنع كرسيًا أو مشبك ملابس، فيتقن صورته، ثم هو يواريه أحد الأدراج أو يضعه في المخزن ليلفّه النسيان بلحاف الإهمال.. هو تصور بليد، ميت، بلا روح؛ إذ يعدم كل ما اهتدى إليه العقل من معرفة شائقة بكمال قدرة الربوبية.

إن الألوهي الذي يتشوف إلى رسالة السماء من بوابة النبوة هو وحده الذي يسير على سكة سهلة غير متعرجة ولا متدحرجة إلى أسفل؛ إذ يترقى من العلم بوجود الرب إلى طلب العلم بحقيقته ومراداته؛ فالقاعدة عنده أن الحكمة الكاملة لا تنتحر، وإنما هي حبلى بالمعنى والأمل، وكمال الصفات عنده وجه لكمال الذات.

والربوبي الذي يرى قداسة العقل، وأنه مصدر العلم بالرب والخلق والمآل، أسير سكرة الإعجاب بما فتح له من زوايا المعرفة؛ إذ العقل لا يملك من آفاق المعرفة بالرب غير بعضها؛ كالخلق، والقدرة، ثم تنيخ ركائبه؛ ولذلك فالتصور الربوبي يقضي عليه بالأسر في قفص الجهل بالخالق، كما يقضى على الخالق أن يتسربل بصفة الشحّ على الخلق بالمعرفة، ويرميه بنقيصة الاستمتاع بحيرة الإنسان وتيهه

والربوبي -في حقيقة الأمر- شر حالا من الملحد؛ إذ الملحد لا يرى في الوجود غير ركام من الأشياء بلا غاية، وآكام من النظم مبعثرة؛ فيبني على ذلك أن الكون عبث بلا هدف، بلا حكمة، وأما الربوبي فيرى الحكمة في خلق الذرة والمجرة، ويدرك مظاهر العظمة فيها، ثم هو ينتكس بعد ذلك إلى مذهب الملحد نفسه؛ فلا يرى في الوجود غير أشياء تسير إلى حتفها رغم أنفها.

والربوبية -على الصواب- مظهر من مظاهر الكسل المعرفي؛ ﻷنها وقوف على تخوم الإيمان والإلحاد؛ فلا الباحث أكمل المسير إلى نهاية الغاية من الخلق، ولا هو أدبر إلى نقطة الإنكار لقيمة الأشياء المتراكمة في حيّز الوجود.

وهي -الربوبية- في تاريخها الحديث، أثر عن الكفر بالنصرانية وعقائدها ومؤسساتها الدينية المفسدة في الأرض. فقد أدى الكفر بالنصرانية في عصر الأنوار في أوروبا إلى الكفر بكل دين؛ ﻷن فساد النصرانية يلزم منه فساد كل الأديان، فلن تكون أديان الشرق، وخاصة دين الترك (اسم الإسلام في تلك الفترة) أفضل حالا من النصرانية.. وهذا احتكام من فلاسفة الأنوار إلى الجهل، وفرغ عن آفة التعالي الذي هيمن على العقل الغربي بظنه أن الشرق أدنى من الغرب في كل شيء.

أنا لا أصدق أن نفسًا ترى هذا الكون وعظيم صنعه، والعطايا ولذيذ طعمها، والجمال ودقيق ملحمة؛ ثم تكتفي بالإيمان "بمهندس عظيم" وراء ذلك، خلق وصوّر، ثم أدبر.. سيظل الإبهار والإمتاع في الكون مصدر قلق للربوبي الصاحي يجذبه إلى مصدر النور الخفيّ، ويستحث عقله المتقلب نظره في الآفاق البعيدة ليستعجل فك شفرة المبدأ والغاية.


المصدر:
د. سامي عامري، براهين النبوة، ص31

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الربوبية
اقرأ أيضا
شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع | مرابط
تفريغات

شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع


فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات وكانت عندهم من البدع لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد كيف قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين لا مشاكل...

بقلم: أبو إسحق الحويني
929
أمنيات التفسير | مرابط
مقالات

أمنيات التفسير


بعض أهل الأهواء يذكر أحيانا آيات يحتج بها على مقتضى هواه وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا التفسير للآية الذي يطرحه مجرد أمنية أكثر من كونه يقين بمعنى الآية فهو في الحقيقة يتمنى فقط أن يكون معنى الآية كما يريد. تأمل في كثير من التفسيرات والتأويلات والتجديدات التي تطرح اليوم للنصوص الشرعية أليس أكثرها مجرد أمنيات تأويلية يعلم ملقيها وكاتبها قبل غيره أنه يتمنى فقط!

بقلم: إبراهيم السكران
444
من أبواب العقل والراحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أبواب العقل والراحة


باب عظيم من أبواب العقل والراحة: وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو باب العقل كله والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن ألمتها في أول صدمة

بقلم: ابن حزم
265
عن ركعات قيام الليل | مرابط
مقالات

عن ركعات قيام الليل


قيام رمضان لم يؤقت النبي فيه عددا معينا بل كان هو لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد على الركعات

بقلم: حسين عبد الرازق
507
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة


من مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي فضلها الله تعالى على سائر أيام العام فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء أخرجه البخاري: 2457

بقلم: محمد صالح المنجد
3482
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
964