السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2 | مرابط

الكاتب: عبد الله العجيري

1294 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الفِرْقة الناجيَة بين تصوُّرين

يتَّكئُ الخطابُ السلفيُّ عادةً في تقرير رُؤيَتِه لحقيقة السلفية ومفهومِ أهل السُّنة والجماعة على جملةٍ من النُّصوص الشَّرعية، يقف على رأسها حديثُ "الفِرْقة النَّاجِيَة"، وهو حديثٌ تناوله الكِتاب بطبيعةِ الحال ليقَدِّمَ مرةً أخرى رؤيةً مُخالِفَة للإِرْث السلفيِّ، وَلِيَشْحَنَه بمضامينَ ستُحْدث في تقييمي ارتباكًا عميقًا في تحقيقِ طبيعة هذه الفِرْقة، وطبيعة النجاة المقصودة، وضرورة وجود طائفة مخصوصةٍ برؤية عَقَدية ممِّيزة عن بقيةِ طوائِفِ الأُمَّة في خارطة الإسلام، وصِلَتها باستبقاء الحقِّ في هذه الأمَّة.

الرواية التي اعتمدها الكتابُ هي رواية أصحاب السُّنَن مِن طُرُقٍ عن أبي هريرةَ ومعاويةَ وأنسِ بن مالك وغيرهم، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (افترَقَتِ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرقةً، وافترقَتِ النَّصارى على اثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً، كلُّها في النار إلا واحدةً، قالوا: من هي يا رسولَ الله؟ قال: هِيَ ما أنا عليه وأصحابي).

ابتدأ الكتابُ بإيرادِ وِجهة النظر السلفية في هذا الحديث؛ حيث قال بوضوح: (تذهب السلفيةُ المعاصِرَة، تبعًا لشيخِ الإسلام ابن تيمِيَّة بدرجةٍ أساسيةٍ، إلى أنَّ هذا الحديثَ هو في قِسْمة فِرَق المسلمين، وأنَّ الخلافات الواقعة بين المسلمين في العقائد هي مَوْرد القِسْمة والافتراق، وأنه ثمَّ فرقةٌ واحدةٌ هي الناجية يوم القيامةِ غير متوَعَّدَة بعقابٍ من هذا الوجه، وهي الفِرْقة التي التزمت بما عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه في أصول الاعتقاد، وترى السلفيةُ أنها هي هذه الفِرْقة وأنَّ باقي الفِرَق التي تخالفها في الاعتقاد هي من الفِرَق الناريَّة) [51]. وهذه الرؤية هي رؤية مطابِقَةٌ فعلًا لتصوُّر السلفيينَ لطبيعة هذه الفِرْقة، وإن كان ثمَّةَ تحفُّظٌ على الإيحاء بأنها تَصَوُّرٌ فريدٌ للسَّلفيَّة المعاصِرَة، أو أنَّها ناشئة من أثر الخطاب التَّيميِّ؛ فإنَّ هذا التصور شائِعٌ جدًّا قبل السلفية المعاصِرَة، بل هو تصوُّرٌ تتبنَّاه حتى التصوراتُ غيرُ السلفية، وهو ناشئٌ أصالةً من منطوق الحديث ومفهومه، ومن واقع الأمَّة المُسْلِمة ذاته، ومن معجم عقديٍّ تأريخي راصِدٍ للحالة. ومرورٌ سريع على الكتابات المؤرَّخة لظاهرة الافتراق في الأمة -سلفية وغير سلفية- بل ومُطالعةٌ عَجْلَى لكثيرٍ من المُدَوَّنات العَقَدية -السُّنِّية وغير السنية- سيُلْحَظ حديثُها المكثَّف عن طائفة عَقَدية مميَّزة، في مقابل فِرَق مُنحَرِفةٍ عنها، بل إنَّ هذا المعنى المكثَّف قد يتم تركيزه أحيانًا وتضمينُه بعضَ عناوينِ هذه المدَوَّنات.

أما الرؤية التي يتبنَّاها الكتابُ في تحديد طبيعة هذه الفِرقة فقد جاء ليقرِّرَ (أن هذه الفِرَق كلَّها متوعَّدةٌ بالنار إلا فرقةً واحدة، هي ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه. وهذا المعنى لا إشكالَ فيه؛ فالثابتُ بالأدلة القطعيَّة أن من خالف ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العِلم والعمل أنه يكون متوعَّدًا بالنار، وليس في هذا الحديث إلا إجمالٌ لِما فصَّلته الشريعةُ في أحكامها المختلفة أمرًا ونهيًا وإخبارًا) [55]، وعليه فقد كَرُّوا بالنقد على التناوُل السلفي المعتاد لمثل هذا الحديثِ والذي عدُّوه الفَهْم الأخطرَ لهذا الحديث والذي أتى بالخَلَل في التصور (وهو فَهْمُ مَن عيَّن مجموعةً من الأبوابِ أو المسائل كأصولِ الدين أو أصول مسائل الاعتقاد، وجَعَلها حصرًا وقصرًا مناطَ الافتراق، وبالتالي جعل من التزم فيها قولًا معيَّنًا كان من الفرقة الناجية دون من خالف فيها، وهذا الفهم غَلَطٌ ظاهر.

فإنَّ الحديث أتى في كلِّ ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من العِلم والعمل، وهذا يشمل أصولَ الاعتقاد وفروعَه، وأصولَ الشرائع والأعمال وفُروعَها، وسائرَ أبواب الأخلاق والمعاملات؛ فإنَّها كلَّها يجب فيها التزامُ ما كان عليه النبي صلى الله علي وسلم). بل قالوا بوضوحٍ شديدٍ: (مصطلح الفِرْقة الناجية مرادفٌ تمامًا لمصطلح الإيمان الكامل بالواجبات؛ أي إنَّ المراد به تحقيقُ الموافقة التامة لما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في العلم والعمل وتجنُّب سائر المخالفات التي تجعل هذه الموافَقةَ ناقصةً وتوجِبُ الوعيد بالنار، وهذا المفهومُ بهذه الصورة مفهومٌ ذِهنيٌّ لا يكاد يتحقَّق في الخارج إلا في السابقين المقَرَّبين ممن يقبِضُهم الله، وقد تَقبَّل حسناتِهم وغفر لهم خطاياهم في الدُّنيا، وقد أدرَكَتِ الحقَّ الواجبَ كلَّه لم يَفُتْهم منه شيءٌ، وهي منازلُ النبيينَ لا غير، أما كُلُّ مؤمنٍ يلقى ربَّه وقد اكتسب خطيئةً، فليس من الفِرْقة الناجية، بل يبقى متوعَّدًا بالنارِ حتى يُعْذَرَ بتأويل، أو تَغْلِبَ حسناتُه سيئاتِه، أو يغفرَ الله له، أو يشفعَ له الشافعون، إلى آخر موانعِ إنفاذِ الوعيد. ومن هنا يظهر: أنَّ استحضارَ هذا الحديث في أبواب العقائد ينبغي ألَّا يزيد استحضاره في أبواب العبادات والمعاملات والأخلاق، وأنَّ استحضارَه على معنى أنَّ طائفةً من الناس حقَّقَت القول أو العمل في بابٍ مُعَيَّن – دون غيره- تكون هي الفِرْقة الناجية دون ما عداها= غَلَطٌ ظاهر) [56].

هذا هو التصور الذي تبنَّاه الكِتابُ في تعليقه على مفهوم الفرقة الناجية، وأنه ليس ثمَّةَ فرقةٌ متميِّزةٌ حقيقيةٌ يَصْدُق عليها وصفُ النجاة، وإنما مقصودُ الحديث أنَّ عندنا إيمانًا قد جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فمن أتى به جميعًا فهو ناجٍ، ومن خالفه جميعًا فهو هالِكٌ، ومن أتى ببعضٍ وخالف بعضًا فهو ناجٍ بما أتى منه هالِكٌ فيما قَصَّر. وأن مفهوم الفرقة الناجية لذلك لا يعدو أن يكون مفهومًا ذِهْنيًّا لا يكاد يتحقَّقُ في الخارج إلا في السابقين المقرَّبين، وهو وصف لا أدري ما المساحَةُ التي يُغَطِّيها وهل يشمل جميعَ الصحابة مثلًا أم يختَصُّ ببعضهم دون بعضٍ، أم أنَّها أضيقُ دائرة فلا تشتمِلُ إلا على النبيينَ لا غير.

هذا الفهم للحديث، وهذا التحديدُ لطبيعة الفِرْقة الناجية غلطٌ ظاهرٌ، وهو معنًى غريبٌ لا أعلم أحدًا من أهل العِلْم أشار إليه أو قال به، وظاهِرُ الحديث لا يساعِدُ عليه مطلقًا. والذي أوجب للكاتبينِ الوقوعَ في هذا الغلط الظاهر أنَّهما خلطا بين معنى النجاة المُطْلَقة، وبين نجاة خاصَّة إضافيَّة في بابٍ معيَّنٍ خاصٍّ. فامتداحُ الشارع في هذا الحديث للفِرْقة الناجية إنما هو لمُكَوِّن مخصوصٍ من مكوِّنات النجاة لا ترتيب النجاة المطلقة لمن أتى بهذا المكَوِّن، فمقصودُ الحديث امتداحُ المكَون المنهجيِّ العقديِّ، والذي يحقِّقُ الوَحْدة المطلوبة شرعًا في مقابِلِ ذمِّ الافتراق البِدْعي الناشئ من الإخلال بذاك المكون المنهجي، وبالتالي فالحديثُ جاء بامتداح الفِرْقة التي حَصَّلت هذا المُكَون وأعطته وَصْف النجاة دون الفِرَق الأخرى التي لم تحقِّقْه فتُوُعِّدَتْ بالهلاك. وهو فهمٌ ظاهِرٌ جدًّا من الحديث.

فالافتراقُ المشار إليه في الحديث هو افتراقٌ في الدين لا على مستوى الذُّنوب والمعاصي العَمَلية؛ فإن هذه بمجَرِّدها لا تُوجِب افتراقًا، وإنما الموجِبُ للافتراق هي الأهواء البِدْعية، يدلُّ على ظهور هذا المعنى من هذا الحديث ما يلي:
- تشبيه الافتراق الواقِعِ في الأمة بالافتراق الذي وقع للأمم السالفة (اليهود والنصارى) ولم يكن ذاك الافتراقُ افتراقًا بمجرد مقارَفَة بعضِ أفراد تلك الأُمَم للذنوب والمعاصي، بل هو افتراقٌ وتحزُّبٌ على مكوَّنات عَقَدية ومنهجيَّة متبايِنَة، أوجب حالةً من التَّشَظِّي في الدائرة النَّصْرانية والدائرة اليهودية، وواقعُ هذه الديانات وتاريخها شاهِدٌ على موجِب هذا التفرُّق.

- لو سلَّمنا لذاك الفَهْمِ الغريب الذي أورده الكِتابُ في شرح الحديث وأنَّ الفِرْقة الناجية لا تَصْدُق إلا في حقِّ من أتى بالإيمان الكامل الواجب؛ فالافتراقُ سيكون حتْمًا بسببِ التقصير في الإتيانِ بذاك الإيمانِ الكامل، فكلُّ إخلالٍ في مكَوِّنات الإيمان وشُعَبِه سيسْتَتْبِع فِرَقًا بعددها، فكما أنَّ لَدَينا فُرقةً وقعت بسبب إخلالٍ في المُكَون العقدي والمنهجي وهو ما نتفَهَّم معناه ونتعَقَّلُه، فثمَّة فُرقةٌ وقعت أيضًا للإخلالِ بالمكوَّن العملي بالإتيان بالذنوب والمعاصي، فيصحُّ إذن أن يقالُ إنَّ مِن الثِّنْتَين والسبعين فِرْقةً، فِرقةَ الزَّواني، وفرقة المُرابين، وفِرْقة الكَذَبة، وفرقة مُدْمِني الخمر .. إلخ، بل ثَمَّة فِرَقٌ بعدد كلِّ نَقْص متصوَّر على الإيمان الكامل الواجب، وهو معنًى باطلٌ لا يحتمله الحديث، والعجيبُ أنَّ الكتاب أشار إلى احتمالِ تفسير الحديث به، فقال: (ونَفْس التَّعْداد يحتمل أن يكون مقسومًا على شُعَبٍ مختلفة من الاعتقادات والأقوال والأعمال، على غِرارِ شُعَب الإيمان، وقد يكون وَفْق موارِدَ أخرى، الله أعلم بها) [57].

 

 يُوَضِّحُ بطلان هذا التصور:

- أنَّ مُجَرَّد الوقوع في الذَّنْب والمعصية لا يُوجِب افتراقًا، وإنما الافتراقُ الذي تتناوله النصوصُ الشرعية بالذَّمِّ هو ما كان ناشئًا عن التبدُّلات المنهجية في مساراتِ النَّظَر والاستدلال وما تُفْرِزه هذه المساراتُ من انحرافات في مُكَوَّن العلم والعمل، لا أنَّ الفِرْقة تقع لمجرَّدِ خطأٍ في العلم والعمل. ولم يكن الصحابةُ فمَن بَعْدَهم يتعاملونَ مع المذنبين باعتبارهم مُحْدِثينَ فُرقةً في الأمَّة، بل هو معنًى يتناولُ لونًا مخصوصًا من ألوان الانحرافِ الموجِب لوقوع الفُرقة في الدِّين. والتفريق في التعامُل بين أصحاب الذنوب والمعاصي، وأهْل البِدَع والأهواء في التراث السلفي، أشْهَرُ من أن يُوضَّحَ وأنْ يُنَبَّه إليه. بل لو تأمَّلْنا واقعَ الذنوب والمعاصي في حياة أفراد الأمَّة لوجدنا أنها لم تَزَلْ حاضرةً ولم توجِبِ افتراقًا كما هو مشاهَدٌ حتى اليوم بخلافِ الإخلال والانحراف البِدْعي والذي أوقع ذاك الافتراقَ الدينيَّ المذموم.

- ولذا فإنَّ السَّلَف الصالح حين استعملوا اسم السُّنَّة كاسْمٍ مميِّزٍ لهم دون سائر الطوائف البِدْعية، فإنَّهم لم يستعملوه بقَصْد الإشارة إلى الإصابة الكاملة للسُّنَّة في جليل أمْرِها ودَقِيقِه، فمن قصَّرَ في شيء من شأنها رفعوا عنه اسْمَ السُّنِّي، بل استعملوه أصالةً للإشارةِ إلى مكوِّن ديني مخصوص متى توافَرَ للشَّخْص ولو كان مقَصِّرًا صحَّ استعمالُ الاسم في حقه، ومتى قصَّر في ذاك المكَوِّن استحقَّ نَزْعَه وسَلْبَه، ولم يقع من أحدهم ولا ممن تلاهم تَسْييلٌ لمعنى السُّنَّة ليحدِّثَنا عن موافقة أهلِ البِدَع في بعض شأنِ السُّنة؛ كونهم مسلمينَ، وما من مسلمٍ إلا ولديه قَدْرٌ من تحقيقِ السُّنة، وعليه فإنَّ أهل البدع يَدْخُلون في مسمَّاها باعتبار الموافقة، ويَخْرجون منها باعتبار المخالفة، تمامًا كالسُّنِّي العاصي فإنَّ معصيته لا تكون من السُّنَّة، فهو سُنيٌّ من وَجْه وخارجٌ عن السُّنة من وجه، فمثل هذا الاستعمال المائِعِ لم يكن واردًا على أذهانِهم قطُّ، وليس له حضورٌ في استعمالاتهم، وهو يُفْقِد شعارَ السُّنَّة الفائدةَ التي وُضِعَ لأجلها، بل لهم من الاستعمالاتِ الكثيرة الدَّالة على إعطائهم اسمَ السُّنة لبعض العُصاة دون أهل البِدَع، ما يكشف عن مفهومِ هذا الاسم ومكوِّناته المركزيَّة.

- يؤكِّدُ خطأ ذلك التفسيرِ الذي تبنَّاه الكِتابُ لمفهوم الفِرْقة الناجية أنَّ الحديث جاء ليَكْشِف عن وقوع إشكاليَّة دينيةٍ عميقةٍ مستقبليةٍ في حياة هذه الأمَّة وهي تَشَظِّيها إلى فِرَق=طوائف=كانتونات دينية تمثل جُيوبًا عَقَدية في واقع الأمة، وأنَّ ثمَّة فصيلًا منها قد حقَّق امتيازَه العقديَّ عليها جميعًا لالتزامه هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، أمَّا وقوع الذنوب والمعاصي وارتهانُ النَّجاة بمجانبتها جميعًا بتحقيقِ الإيمان الكامل فمعنًى أجنبيٌّ تمامًا عن الحديث، ولا تحتمله طبيعةُ النُّبوءة النبوية؛ إذ الذنوبُ والمعاصي واقِعٌ مُشاهَدٌ حاضِرٌ في مجتمع الصَّحابة، وإنما الحديثُ يتناول ظاهرةً دينيةً مستقبليةً.

- ولو فُسِّرَ الحديثُ بذاك التفسيرِ المذكور في الكتاب، فكل الطوائف الإسلامية سيلحقها الذَّمُ الواردُ فيه لإيقاعها للفرقة المذمومة، فأهْلُ البِدَع واقعون في الافتراق المذموم، وأهل السُّنة بمن فيهم من أصحاب الذنوب والمعاصي واقعون فيه أيضًا، فلا نجاةَ لطائفة من طوائف الأمة من إحداث الفرقة المذمومة.

وبكل حالٍ فليس ثَمَّة ما يُحْوج للخروجِ عن هذا الظاهر للحديث، وتوَهُّم أن الحديثَ قَصَد التنبيه إلى النجاة المطلقة لهذا الفصيلِ لمجرَّدِ تحقُّق هذا الامتياز العَقَدي؛ إذ هذا غيرُ مقصودٍ أولًا في الحديث، ولا هو مفهومٌ لمن تناولَ الحديث من أهل العلم ثانيًا، ولا هي الرُّؤْية التي يتبنَّاها السَّلفيونَ، بل هي رؤيةٌ تعودُ على فائدة الحديث ومعناه بالإبطالِ؛ إذ الحديثُ جاء بذَمِّ الافتراق وتحذيرِ الأمَّة منه، وهو معنًى -كما سبق- لا يكون بمجَرَّد مقارَفَة الذنوب والمعاصي، بل يكون بموجِباتٍ أخرى تُحدِثُ هذه الفرقة المذمومة، أمَّا الحديثُ عما به تتحقَّقُ النجاةُ المطلَقَة، فليس مرادًا للحديثِ أصلًا، وإنَّما جاء الحديثُ بالتَّنبيه إلى سببٍ من أسباب النجاة يتوافَرُ لطائفةٍ من هذه الأمَّة دون بقيَّة طوائفها، وتوافُرُ هذا السبب لا يلزم منه ضرورةً تحقُّقُ وعْد النجاة بإطلاق؛ إذ هو موقوفٌ على شروطٍ وانتفاءِ موانِعَ كسائر نصوص الوَعْد، وغيابه أيضًا غيرُ مُستَوْجِبٍ ضرورةً للهلاكِ، فهو الآخَرُ لا يكون إلا بتوافُر شروطه وانتفاءِ موانعه؛ كسائر نصوص الوعيد، وهو معنًى ليس فيه أدنى إشكالٍ ولا تنشأُ منه لوازِمُ فاسدةٌ.

وفي ضوء ذاك المعنى الغريب الذي فَهِمَ به الكاتبان هذا الحديث، قالا في الحاشية: (سواءٌ أكانت هذه الفِرْقةُ هي أهل السُّنة والجماعة، أو أهل الحديث، أو المعتَزِلة، أو الأشاعرة، أو الشِّيعة، أو غيرهم؛ فكل فِرْقة وافقت النبيَّ في بابٍ من أبواب ما جاء له فهي ناجيةٌ في هذا الباب، وكلُّ فرقة خالفَتِ النبيَّ في باب من الأبواب فهي الهالكة –هي في النار، يعني متوَعَّدة- في هذا الباب. وَفْق هذا التصوُّر فقد يكون أحمدُ بن حنبل من الفِرْقة الناجية في بابٍ، والقاضي عبد الجبار من الفِرْقة الناجية في بابٍ أو مسألة، وكلاهما من الفرقة المتوَعَّدَة بالنار في أبوابٍ أخرى حصل فيها الذَّنْبُ المحض، أو الخطأُ الموقوفَةُ مغفِرَتُه على العذر، وإنما تكون إمامةُ أحمدَ باعتبار كثرة صوابِهِ وهدايته المشهودِ بها لا باعتبارِ نجاةٍ بالتصوُّر الافتراقيِّ) [56].

وبعيدًا عن التَّمثيل والمقارنة بين الإمام أحمد والقاضي عبد الجبار، وهي مقارنة مستفِزَّة ومثيرة فعلًا، وكأنَّ التَّمثيلات ضاقَتْ إلا بحشر رجلٍ بقَدْر الإمام أحمد وجَلالَتِه في هكذا سياق، فحقيقةُ هذا الكلام إلغاءٌ لمفهوم الافتراقِ والنجاة في الحديث، وتذويبٌ لملامحِ الفِرْقة الناجية، بل والفِرَق الهالكة؛ إذ يصحُّ في ضوء هذا الفَهْم القولُ بأنَّ كلَّ الفِرَق ناجية، وكلها هالِكَة أيضًا، وذلك بحسَب مُوافَقَتِها للهَدْي النبويِّ، وهو المعنى الذي صرَّح به الكتاب فعلًا تحت ذريعةِ الوَهْم المسيطِر أنَّ النجاة والهلاك في الحديث نجاةٌ مطلقَةٌ وهلاك مطلق، في حين أنَّ الحديث لم يتناوَلْ هذا المعنى أصلًا، وإنما الحديثُ يتناولُ الحديثَ عن نجاةٍ وهلاكٍ في باب دينيٍّ مُعَيَّن مخصوصٍ. مع اعتبار شروطِ وموانعِ النَّجاة المُطْلَقة والهلاك المُطْلق. فأصحابُ الفِرْقة الناجية= أهل السُّنة والجماعة= السلفيون، قاموا بهذا الباب الديني العَقَدي على الوَجْه المطلوب، وبالتالي توفَّرَ لهم من مقوِّماتِ النَّجاة ما لم يتوفَّرْ لغيرهم، فهم موعودون بالنجاة بشَرْطه كما أنَّ غيرهم ممن أخَلَّ بهذا المُكَون متوعَّدٌ بالهلاك بِشَرْطه أيضًا. ومع أن المؤَلِّفينِ يفهمان ويُصَرِّحان أنَّ أهل العلم لا يقصدون نجاةً مطلقةً حين يتحدَّثون عن فِرْقة ناجية من بين سائر الفِرَق، إلا أنَّهما يناقشان هذا المعنى، ويجتهدان في رَدِّه بحماسة، وكأنَّ أحدًا قال به، أو أنَّه لازِمٌ لطريقة أهل العلم المعروفة في فَهْم الحديث.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ما-بعد-السلفية
اقرأ أيضا
العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة ج1 | مرابط
تفريغات

العقيدة الصحيحة وما يضادها من العقائد الفاسدة ج1


إنني لا أريد أن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي السماء من الفلاسفة والمفكرين ولكني أحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئا ما فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا وراءه طويلا

بقلم: عمر الأشقر
778
الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني | مرابط
فكر الليبرالية

الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني


مقال تفصيلي يسير بشكل موجز بين أروقة التاريخ ليحدثنا عن الليبرالية الاستئصالية التي ترفع شعار الحرية والمساواة ولكنها على أرض الواقع أبعد ما يكون عن شعاراتها ومبادئها هنا سترى الليبرالية منذ بداياتها مراحل الضعف والانهزام أمام الاشتراكية ثم انهيار الأخيرة وصعود موجات الليبرالية وبداية حقبة جديدة تمتد موجاتها إلى عالمنا الإسلامي

بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل
2215
منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج1 | مرابط
تفريغات

منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته ج1


لقد كان الصحابة يثبتون لله الأسماء والصفات كما أثبتها القرآن والسنة ولذلك نحن نقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة وبين يديكم تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ أبو إسحق الحويني يقف فيها على مسألة الأسماء والصفات وعقيدة السلف في ذلك

بقلم: أبو إسحق الحويني
697
خلط الإسلام بالديمقراطية إساءة كبيرة للإسلام ج1 | مرابط
فكر الديمقراطية

خلط الإسلام بالديمقراطية إساءة كبيرة للإسلام ج1


الديمقراطية لما كانت تعني باختصار حكم الشعب - سواء في وضعها البدائي عند اليونان أو في تطبيقاتها المعاصرة - صار الشعب عندهم هو مصدر السلطات بما فيها أهم وأكبر السلطات وهي السلطة التشريعية التي تعد في الإسلام خالص حق الله وحده لاشريك له وبذلك أصبح الشعب في الوضع الديمقراطي المرجع الوحيد في التحليل والتحريم فالمحرم ما حرمه الشعب والمباح ما أباحه بقطع النظر عن وجود حكم شرعي مغاير بالكلية لاختيار الشعب في القرآن والسنة وإجماع الأمة عبر القرون

بقلم: د عبدالله بن عبدالعزيز العنقري
2720
مكانة السنة النبوية | مرابط
تعزيز اليقين فكر

مكانة السنة النبوية


إن دراسة السنة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله سبحانه وتعالى وإن من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله سبحانه وتعالى ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك العناية بصحيحها وسقيمها فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتجاج ولذا فإنه قد أجمع أهل السنة على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1049
الزواج وطلب العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

الزواج وطلب العلم


مقتطف من كتاب إلى الجيل الصاعد للكاتب أحمد يوسف السيد يناقش فيه معضلة طلاب العلم حيث يعتقد البعض أن الزواج سيكون عائقا أمام رحلة الطلب أو أن الوقت سيكون ضيقا ومن هنا يقرر البعض تأخير الزواج لكن الحقيقة عكس ذلك تماما

بقلم: أحمد يوسف السيد
601