الشعور بالذنب في زمن الحداثة

الشعور بالذنب في زمن الحداثة | مرابط

الكاتب: عبد الله الوهيبي

534 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يلاحظ بعض المحللين شيوع شكوى الأفراد من ألم “الشعور بالذنب” في الزمن المعاصر، ومظاهر ذلك متعددة، فتظهر مثلًا في انتشار خطاب مسامحة الذات، وفي الاهتمام الذي تبديه المعالجات النفسية بهذا اللون من الشعور الممضّ والممرض، وكما يلاحظ المعالج النفسي إيرفن يالوم -على لسان إحدى شخصياته الروائية- فقد أصبح لدى “كل معالج متمرّس ترسانة من أساليب نسيان الماضي والمسامحة”، وهو يرى بأن “صناعة (المغفرة) البسيطة والحذرة تضخمت كثيرًا، وسوّقت هذا الجانب من العلاج إلى كل شيء، وقدمتها على أنها شيء جديد ومبتكر، وحظيت باحترام ضمني ممزوج بمناخ المغفرة الاجتماعي والسياسي الحالي، الذي يتناول طائفة من الجرائم، كالإبادة الجماعية، والاستعباد، والاستغلال الاستعماري، حتى إن البابا طالب –مؤخرًا- بالمسامحة لقيام الصليبيين بنهب القسطنطينية، وطرد سكانها في القرن الثالث عشر”.

ويرصد الناقد الفرنسي جان تادييه الحضور الكثيف لهذه الظاهرة في الرواية الحديثة وروايات القرن العشرين، عند دوستويفسكي وفرانز كافكا ومارسيل بروست (يشير إلى أن الرواي في “البحث عن الزمن المفقود” يقدم نفسه بصفته واحدًا من أكبر المذنبين في القرن العشرين)، وجوزيف كونراد وكامو، وآخرين.

دوافع الشعور بالذنب

وعند التأمل والفحص تبرز أمامنا جملة تفسيرات جزئية تكشف عن دوافع هذا الشعور ومسبباته:

تفرد الإنسان في الحداثة

التفسير الأول يرى أن الشعور “الطبيعي” العميق بالذنب ينجم ضمن عملية تفرّد الإنسان في الحداثة، وهذه العملية الضرورية للتطور والنمو تستوجب على الفرد أن يضع نفسه في مواجهة الطبيعة أو الكون، وهذه الوضعية تشعر الفرد بالضعة الهائلة أمام الكون، وتملؤه بإحساس الضآلة والصغر والهامشية وانعدام القيمة، ومن ثمّ يتولّد الشعور بالذنب.

إدراك الإنسان لمحدوديته

والتفسير الثاني يُرجع الشعور بالذنب إلى إدراك الإنسان لمحدودية وضعه الوجودي، فالفرد حين “يشعر بملكاته، ومواهبه وقدراته، وبأن حياته هي الفرصة الوحيدة المعطاة له، وأنه إذا فقد هذه الفرصة فقد كل شيء، وهو يعيش في رغد مريح ومع ذلك يشعر بأن الحياة تمرق من بين أصابعه، ولا يسعه إلا الإحساس بالذنب من أجل التبديد، ومن أجل الفرصة الضائعة” كما يرى إيريك فروم (ت1980م). وهذا ما يسميه بعض النفسانيين بالذنب الوجودي (ontological guilt) ويقصدون به الشعور الذي “ينشأ –جزئيًا على الأقل- من إضاعة وتبديد إمكانات الفرد الكامنة”.

تجاهل المنابع الدينية

وإذا نظرنا من منظار آخر سنتبين مصدر مهم وجوهري –في ظني- للشعور المعاصر بالذنب، وهو تجاهل الفطرة والأسس الاخلاقية ذات المنبع الديني، وهذا هو التفسير الثالث فالرغبة الجامحة بالسيطرة التامة على الذات بغرض تحريرها، وإخضاع كل مسببات الألم النفسي للتشخيص والمعالجة، مع الحفاظ –في الوقت نفسه- على إقصاء الأبعاد الروحية والغيبيات الدينية، والحرص على ضبط وتنظيم -وحتى كبت- الدوافع الغامضة و”غير العقلانية” المؤثرة على السلوك الفردي المراد تحريره من تعاساته المؤرقة؛ كل ذلك يكرس من انفصال الفرد عن فطرته الأصلية، وفقدانه الاتساق مع طبيعته الوجودية وتطلعات ذاته الدفينة للمعنى، وكما يقول تشارلز تايلور: “يوجد أصل الذنب، والاغتراب، والانقسام الداخلي ولو جزئيًا على الأقل؛ في الطموح إلى شيء متعالٍ“. ويمكن التعبير عن ذلك بعبارة أخرى؛ فيقال إن الشعور بالذنب هو شكل من أشكال الاحتجاج الباطني على إعراض الفرد عن مقتضيات العبودية، وكبته لأشواق الصلات الإلهية، وقمعه الواعي أو اللاواعي لهذه النداءات الفطرية.

وهذا “الاحتجاج” اللاإرادي ليس غريبًا، فحتى الجسد يحتجّ -أحيانًا- على الانحراف الأخلاقي، فقد درس الأنثروبولوجي البريطاني هيو غسترسون مواقف علماء الفيزياء النووية، ونقل عن أحدهم أنه رفض العمل على تطوير أسلحة نووية، وشرح سبب ذلك بقوله: “إن رأسي يفهم الأسباب التي تدعو إلى العمل على الأسلحة، للردع وما إلى ذلك، ولكن حين أفكر في القيام بهذا العمل أشعر بذلك الشيء في معدتي”.

الجوانب العملية في حياة الفرد

وهناك تفسير رابع يمسّ الجوانب العملية في حياة الفرد اليومية؛ ومفاده أن الشعور بالذنب ينبع من التضارب الدائم والحادّ بين المعرفة والإرادة، أو تناقض دوافع إشباع الرغبات والغرائز والمشتهيات مع المعرفة والوعي بمخاطر تلك الإشباعات وأضرارها، وهذه وضعية ليست جديدة على الإنسان، بل هي جزء من تكوينه منذ البداية، إلا أن الجديد في الزمن المعاصر يكمن في تضخّم الدعاية وآليات التسويق الرأسمالية من جهة، وتراخي القيود الدينية والحدود الأخلاقية من جهة أخرى، واتساع المعرفة المفّصلة بالآثار السلبية للاندفاع وراء تلك الرغبات من جهة ثالثة؛ فعروض وإعلانات الأطعمة الضارة -مثلًا- تقابل الفرد بصورة شبه يومية، وتتفنّن في إغوائه واستمالته، وفي الوقت نفسه يواجه الفرد توعيةً صحية مكثّفة، من خلال البرامج والشبكات ووسائط المعرفة المختلفة، وضغوطًا قوية للانضباط الغذائي، وترويجًا مستمرًا لأساليب التخلص من الوزن الزائد…الخ، فبين هذا وذاك ينشأ الشعور العميق بالذنب، ليس فقط بسبب ضعف الالتزام بالغذاء الصحي، بل إنه في ظل الاقتصاد الاستهلاكي، وتسويق الإشباع الكثيف للرغبات وإدمانها، ذكر بعض الأطباء والمحللين النفسيين أن مرضاهم يشعرون بالذنب؛ “لأنهم لا يمتلكون الرغبة في الانغماس بالملذات، والاستزادة منها”. كما يقول سلافوي جيجيك. وقسْ هذه الحالة التناقضية على بقية الشهوات والرغبات الإنسانية.

وأخيرًا ربما ساهمت عقيدة الفداء والخطيئة الأصلية المتغلغلة في المخيال الثقافي الغربي في تضخّم مشاعر الذنب أيضًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شعور-الذنب
اقرأ أيضا
عوامل الصعود اللوطي الجزء الثاني | مرابط
مقالات الجندرية

عوامل الصعود اللوطي الجزء الثاني


تستند الموجة اللوطية الجديدة على عدد من العوامل في صعودها السريع وانتشارها الملحوظ في بعض المجتمعات ومن أبرز هذه العوامل: التقدم الطبي الذي أتاح للشواذ واللوطيين إجراء تعديلات جسدية وتجميلية وظاهرية موافقة للميول الجندرية الجديدة وكذلك الإتخام الجنسي وإتاحته بكل الصور في كل مكان عبر الشبكة مثلا أحدث نوعا من الملل والتخمة لدى مشاهدي ومدمني البورنو وهو كا دفعهم إلى أشكال جديدة من الجنس مثل اللوطية وفي هذا المقال يناقش الكاتب عمرو عبد العزيز هذه العوامل وغيرها بشكل موجز

بقلم: عمرو عبد العزيز
2197
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج3 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج3


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
963
الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار


اشتهر محمود شاكر شيخ العربية باهتمامه البالغ بقضايا اللغة وتصدى لكثير من المحاولات الداخلية والخارجية التي حاولت طمس معالم هذه اللغة لأنه فهم ما يترتب على ذلك من هدم للدين بأكمله وهذا مقتطف يتحدث فيه عن المستشرقين وكيف يعملون تحت ستار الاستعمار وحمايته وكيف كان هدم اللغة من ضمن أهدافهم الكبرى

بقلم: محمود شاكر
2136
العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني


عندما نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تحكي أو تشابه الواقع الذي نعيشه الآن والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى فما أشبه الليلة بالبارحة إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه ونحن نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا هذه هي سنة الله تعالى في الأمم وبالذات في الأمة الإسلامية كل حياتها كر وفر وكل مواقفها إقبال وإدبار

بقلم: سفر الحوالي
739
من صور إنكار الذات في حياة الصديق | مرابط
تفريغات

من صور إنكار الذات في حياة الصديق


يقف بنا الدكتور راغب السرجاني في إحدى محاضراته الماتعة على بعض المواقف من سيرة الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه والتي تعلمنا المعنى الحقيقي للإيثار وإنكار الذات في حياة هذا الصحابي الجليل حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة

بقلم: د. راغب السرجاني
344
المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج1 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج1


ظهرت طائفة في آخر أزمنة الصحابة أو بعدهم أضعفت من منزلة العمل وبدأت المسألة بشكل بسيط بدأت بخلاف نظري في مفهوم العمل هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو غير داخل في حقيقة الإيمان فإنه بعد فتنة ابن الأشعث وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن الع...

بقلم: عبد الرحيم السلمي
739