
فلما انتشر الإسلام وامتدت فتوحاته ازداد اختلاف لهجات المحادثة بسبب اختلاط العرب بالأعاجم وانتقال العربية إلى الأمصار واختلاف القبائل العربية النازلة بتلك الأمصار واختلاف الشعوب الأعجمية المجاورة لها. وكان من أول مظاهر ابتعادها عن الفصحى اللحن وهو أول أدواء العامية. قيل إنه ظهر في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد رى أن رجلا لحن بحضرته، فقال "أرشدوا أخاكم فقد ضل" كما رويت أخبار كثيرة عن شيوع اللحن منذ القرن الأول في عصر الأموية واستهجان خلفائها وولاتها وأدبائها له.
فقد روى أن عبد الملك كان يحذر أبناءه من اللحن ﻷنه كان يرى أن اللحن في منطق الشريف أقبح من آثار الجدري في الوجه وأقبح من الشق في ثوب نفيس. وري أيضًا أنه لم يكن يستعمل صيغًا ملحونة حتى في المزاح وأنه كان يقدر الدقائق اللغوية حق قدرها.
وروي أن ابنه مسلمة كان يمقت السائلين الذين يلحنون في لغتهم، هذا ما روي عن خلفاء الدولة الأموية. أما ولاتها فقد كان منهم من يقيم وزنًا كبيرًا للعربية الخاصة، مثل الحجاج الذي روي أنه لم يكن يحرص على أن ينطق عربية ناصعة فحسب، بل كان يلزم بها المتصلين به، ويزعم بعضهم أن كثير بن أبي كثير البصري الذي أراد الحجاج إكراهه على عمل يتولاه تخلص منه بأن أساء إلى أذنه بلحن فظيع في القواعد.
ولم يقل عن الحجاج في تعظيم العربية أيضًا عمر بن هبيرة الذي كان واليا على العراق، فكان يرى أن من يحسن العربية أعلى من غيره مقاما في الجنة.
ومن الشعراء الذين اتخذوا العربية الخالصة مقياسا للمفاضلة بين الناس رؤبة 140 هـ، فقد قال في مدحه لبلال بن أبي بردة قاضي البصرة: "فزت بقدحي معرب لم يلحن". وعلى النقيض من ذلك يحقر يحيى بن نوفل الحميري خالد بن عبد الله القسري والي العراق في قوله:
وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في الخطب
فلما ازدادت الأدواء التي طرأت على اللسان العربي من أثر اللحن والتحريف والدخيل اتجه علماء اللغة إلى كلام العامة محاولين إصلاحه لا تدوينه، وألفوا في ذلك عشرات الكتب منبهين إلى لحن العوام أو الخواص الذين تطرق الفساد إلى ألسنتهم، نذكر منها:
1- ما تلحن به العوام للكسائي
2- ما تلحن فيه العامة، ﻷبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي صاحب الأصمعي
3- البهاء فيما تلحن فيه العامة: ليحيى بن زياد الديلمي المعروف بالفراء
4- ما تلحن فيه العامة: ﻷبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب
5- لحن العامة: ﻷبي عبيدة
وغيرها
لم تكن هذه المؤلفات تهدف إلى دراسة العامية لذاتها كما فعل المستشرقون ومن حذا حذوهم في عصرنا، بل كانت تهدف إلى خدمة الفصحى عن طريق تقويم ألسنة العامة وتصحيح أخطائهم، ﻷن العلماء كانوا في ذلك الوقت يعتبرون العامية تحريفًا للعربية الفصحى لا لغة جديدة تختلف عن الفصحى اختلافا جوهريًا ولذلك كانت مؤلفاتهم فرعا من دراستهم للفصحى ومن خدمتهم لها ومحافظتهم عليها سالمة من التحريف واللحن والدخيل.
المصدر:
د. نفوسة زكريا، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، ص5